كنت فى لندن فى ديسمبر من عام ٢٠١٥، تعرفت على بعض الأصدقاء المصريين الذين عرفونى بدورهم على قصة مصرية ملحمية قد لا يصدقها البعض ويعتقد أنها مبالغات أو سيناريوهات لقصص السينما، غير أنها حقيقة بها ما هو مبهر وبها ما هو مؤلم أيضا! تعرفت على شاب مصرى يدعى مصطفى عادل، صيدلى يرافق أخاه الذى يعالج على نفقة الدولة المصرية بعد حادثة مؤسفة تعرض لها فى أحداث محمد محمود الشهيرة.
قد تبدو القصة عادية، لكن التفاصيل مذهلة ومؤلمة معا. معوض طالب فى كلية الصيدلة، حين وقعت الأحداث الشهيرة فى شارع محمد محمود نزل بدافع نبيل وأخلاقى للقيام بمهمته فى المستشفى الميدانى للمساهمة فى علاج المصابين من الأحداث، لكنه تعرض للموت بإصابات شبه قاتلة؛ فقد أصيب برصاصتين فى الرأس إحداهما من الأمام والأخرى من الجنب، ثم تعرض لضرب مبرح «بالشوم» فى مقطع فيديو شهير مؤلم انتشر وقتها ومازال عالقا بالذاكرة!
معوض بحسب أخيه وكذلك السياسى والصديق زياد العليمى الذى سرد القصة كاملة على صفحته فى موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» كان شبه ميت ودخل فى غيبوبة تامة لمدة ١٨ يوما قبل أن يعود للوعى جزئيا ليومين ويعاود الدخول فى الغيبوبة مرة أخرى. طرقت الأسرة كل الطرق الممكنة لسفر معوض والعلاج على نفقة الدولة، وبعد معاناة وروتين متوقع ومماطلات بلا نهاية قررت الأسرة اللجوء للقضاء الذى أنصف معوض وحكم بسفره للعلاج على نفقة الدولة. سافر معوض مع أخيه الصيدلى فى يوليو ٢٠١٣ إلى أحد المستشفيات المتخصصة فى ضواحى لندن. مصطفى الذى قابلته فى ديسمبر ٢٠١٥ ترك كل شىء من أجل أخيه، عائلته وأطفاله، عمله، كل شىء بمعنى الكلمة وقرر مرافقة أخيه «الشهيد الحى» كما لقبه البعض على حسابه الخاص وحساب الأسرة. حياة مصطفى لم تتغير مند أربع سنوات، كل يوم يستيقط ليستقل القطار فى رحلة طويلة من العاصمة البريطانية إلى مقر المستشفى ليجالس أخاه طوال اليوم، يقوم بكل واجباته تجاه أخيه، تفاصيل كثيرة مصطفى نفسه طلب منى ألا أحكى عنها لأنه يرى أنها واجب عليه، يساهم مصطفى فى العلاج بالتحدث مع أخيه حتى يستجيب للإشارات أو للكلمات أو لنبرة الصوت التى يعرفها فى عقله الباطن، ثم يعود فى نهاية اليوم إلى حيث يسكن ثم ومع نهاية كل أسبوع يعقد اجتماعا مع فريق الأطباء المعالج لمناقشة التطورات وبداية جولة جديدة وهكذا بلا ملل ولا كلل طوال السنوات الأربع الماضية.
***
حالة معوض نادرة، لكنها أشبه بالمعجزة، فمعوض بدأ يُظهر الكثير من مظاهر الحياة، بدأ يستجيب لنبرات الصوت، بل وفى مرحلة لاحقة بدأ يدرك التواصل، فبدأ يجيب عن الأسئلة البسيطة بالسلب أو الإيجاب عن طريق تحريك العين! بدأ يستجيب للموسيقى والرسم ويظهر انفعالات جسدية تؤكد أن الله قد منحه فرصة حقيقية فى الحياة من جديد. حالة مشابهة لحالة معوض تم شفاؤها بالفعل مما رفع آمال الأسرة أن يتم الله بقدرته تعالى شفاء معوض ويعود إلى الحياة.
للأسف الحكومة قررت التصرف بالروتين المعتاد والمتعارف عليه، طلب مجلس الوزراء فى ٢٠١٤ عودة معوض بحجة أن الحالة لا تتحسن على الرغم من أن ذلك غير صحيح، قد يكون التحسن بطيئا لكنه يحدث بالفعل والأهم أن تقارير الأطباء تؤكد الأمل! عادت الأسرة مرة أخرى للقضاء وعاد القضاء مرة أخرى لتحقيق العدالة وإنصاف معوض والإبقاء على فرصه فى الحياة فحصل على حكم جديد للبقاء فى المستشفى! هل انتهت القصة؟ للأسف لا! عاد المستشار الطبى لمجلس الوزراء مرة أخرى ليطالب بعودة معوض بحجة ــ والكلام على لسان مصطفى ــ أن المستشفى فى لندن «تضحك» على الأسرة لأنها تعالج مصطفى بالرسم والموسيقى! مما دعا الأسرة مرة أخرى للجوء لمجلس الدولة بحثا عن الإنصاف للمرة الثالثة!
هاتفت مصطفى قبل الشروع فى كتابة هذا المقال، وأكد أن الأسرة لا تريد سوى حق معوض، ولا تريد أن تحرمه من فرصه فى الحياة بسبب الروتين أو القرارات المتسرعة غير المدروسة! هناك أسر مصرية فى لندن عرضت المساعدة، لكن أسرة معوض لا تستجدى أحدا، هى تريد حق ابنها الدستورى والقانونى، حق شاب مصرى نبيل كان يقوم بمهمته الطبية بشكل طوعى وتعرض لما تعرض!
أنا شخصيا لست طبيبا، لكنى على دراية بحالات شبيهة بحالة معوض وتعالج بنفس الطريقة، منها حالة لسياسى شهير كان فى حالة موت سريرى وكان علاجه يتم بالموسيقى بل وبرائحة الشواء الذى كان يحبه حينما كان واعيا بما حوله، حالة معوض ونحمد الله على ذلك متقدمة عن تلك الحالات بكثير، والعلاج بالموسيقى والرسم ليس بدعة ولا أعلم على ماذا تحديدا بنى المستشار الطبى لمجلس الوزراء موقفه علما بأن العلاج بالموسيقى والرسم هو مجرد عنصر واحد من ثمانية عناصر أخرى لعلاج معوض، لذا أطالب المستشار الطبى لمجلس الوزراء مشكورا بالتوضيح للرأى العام كيف اتخذ هذا القرار؟! هذا ليس وقتا مناسبا لتصفية الحسابات السياسية، هذا وقت اتخاذ مواقف إنسانية أخلاقية وهى قبل ذلك حقوق دستورية لكل المواطنين!
***
هذا المقال هو تحديدا رسالة لمجلس الوزراء صاحب قرار العودة، أطلب منهم مناقشة الأمر ومراجعة المستشار الطبى فى مطالبته! لا أعرف إن كان هناك من يهتم بالأمر فى مؤسسة الرئاسة، وأعلم أن قرار إعادة معوض ليس صادرا من الرئاسة، لكنى أعلم أيضا أن المؤسسة لديها السلطة لمراجعة القرار وتستطيع أن تنفذ ذلك بسهولة لو أرادت. هو أيضا مخاطبة للخارجية المصرية والسفارة المصرية فى لندن لاتخاذ أى خطوة لازمة ــ حتى لو كانت مجرد مكالمة هاتفية هنا أو هناك ــ لحفظ حق معوض وفرصه فى الحياة.
أى دولة لابد أن يكون لديها خطوط فاصلة بين المواقف السياسية بجميع أنواعها وبين الحقوق الدستورية والقانونية، وحالة معوض يجب أبدا ألا تختلط بأى مواقف سياسية، ولو قال مجلس الوزراء أن الموضوع لا علاقة له بالسياسة، إذن فنحن سنكون أمام معضلات البيروقراطية والروتين، ولا أعتقد أن حالة معوض تسمح برفاهية الدخول فى الممارسات البيروقراطية والروتينية التى ستضيع لا قدر الله حياة شاب مازالت الحياة تداعبه، نعم نحن نؤمن بإرادة الله، لكننا لابد أن نستنفد الأخذ بكل الأسباب، خصوصا أن الحالة بالفعل فى تحسن بحسب تقارير المستشفى المعالج.
أكتب هذه الكلمات وكلى أمل أن أجد استجابة من الرئاسة أو مجلس الوزراء أو كليهما بحيث تكون مقالة الأسبوع القادم عن أمل جديد للتعايش فى مصر على الرغم من كل الظروف الصعبة، وأسأل الله ألا يخيب ظنى، لأنه لا يوجد فى هذه الحياة الصعبة أعظم من أن تنام وأنت مستريح الضمير!