خطاب مـن أسطنبـول

توماس فريدمان
توماس فريدمان

آخر تحديث: الأحد 20 يونيو 2010 - 10:14 ص بتوقيت القاهرة

 تركيا بلد يستقبلنى بترحاب. أحب الشعب والطعام، والأهم من كل ذلك فكرة تركيا الحديثة فكرة أن بلدا يمثل المفصل بين أوروبا والشرق الأوسط يمكنه أن يكون فى الوقت نفسه حديثا وعلمانيا وإسلاميا وديمقراطيا وذا علاقات طيبة مع العرب وإسرائيل والغرب. وفى أعقاب الحادى عشر من سبتمبر، كنت بين من يشيدون بالنموذج التركى، باعتباره الترياق الشافى من «نموذج بن لادن».

وفى حقيقة الأمر، فإننى فى زيارتى الأخيرة لتركيا عام 2005، تركزت مناقشاتى مع المسئولين هناك حول الجهود التى تبذلها تركيا بغرض الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى. لذلك فقد كان صادما تماما بالنسبة إلى أن أعود اليوم لأرى حكومة تركيا الإسلامية لا تركز على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، بل إلى الجامعة العربية لا، انسَ هذه، إنها تركز على الانضمام إلى جبهة المقاومة ضد إسرائيل التى تشمل حماس وحزب الله وإيران.

كيف حدث ذلك؟
يقول مسئولون أتراك، انتظر لحظة يا فريدمان، فما تقوله فيه مبالغة كبيرة.
أنتم محقون. لقد بالغت فى الأمر، لكن ليس بدرجة كبيرة. لقد أدت سلسلة من الفراغات التى ظهرت داخل تركيا وحولها خلال السنوات الماضية إلى توجيه حكومة تركيا الإسلامية بقيادة حزب العدالة والتنمية الذى يتزعمه رجب طيب أردوغان بعيدا عن نقطة التوازن بين الشرق والغرب.

ويمكن أن ينتج عن ذلك تبعات ضخمة، حيث إن دور الموازن الذى تلعبه تركيا يمثل واحدا من أهم عوامل الاستقرار فى السياسة العالمية وأكثرها رصانة. ولا يمكنك أن تنتبه إلى هذا الدور إلا حينما يختفى. وقد أقنعنى وجودى فى اسطنبول بأننا ربما نكون على وشك خسارة هذا الدور، إذا تم ملء جميع هذه الفراغات بطرق خاطئة.

ويعود الفضل فى ظهور الفراغ الأول إلى الاتحاد الأوروبى. فبعد أن ظل خلال عقد من الزمن يقول للأتراك إنهم إذا أرادوا أن يصبحوا عضوا فيه، يجب عليهم القيام بإصلاحات فى مجالات القانون والاقتصاد وحقوق الأقليات والعلاقات المدنية العسكرية وهو ما قامت به حكومة أردوغان بطريقة ممنهجة تقول قيادة الاتحاد الأوروبى الآن لتركيا ما يلى: «ألم يخبرك أحد بذلك؟ نحن ناد مسيحى، لا يُسمح للمسلمين بدخوله». ويمثل رفض الاتحاد الأوروبى لتركيا، الذى يعتبر خطوة شديدة السوء، عاملا أساسيا يدفع هذا البلد إلى الاقتراب من إيران والعالم العربى.

لكن مع أن تركيا بدأت تصبح أكثر شبها بالجنوب، فقد وجدت أمامها فراغا آخر، بفعل افتقار العالم العربى الإسلامى إلى القيادة، حيث تهيم مصر على غير هدى، وتغط السعودية فى النوم، وتعتبر سوريا بلدا شديد الصغر، ويعيش العراق حالة ضعف شديد. واكتشف أردوغان أنه عندما يتبنى موقفا شديد الصرامة فى مواجهة الحصار الجزئى الذى تفرضه إسرائيل على قطاع غزة بقيادة حماس ويقدم الدعم الهادئ للأسطول الذى تقوده تركيا من أجل كسر هذا الحصار، والذى قتل على متنه تسعة أتراك على أيدى إسرائيل فإن بلاده يمكنها توسيع نفوذها فى الشارع العربى وكذلك فى الأسواق العربية.

وفى الحقيقة، يعتبر أردوغان حاليا الزعيم الأكثر شعبية فى العالم العربى. ولسوء الحظ، لا يرجع ذلك إلى أنه يروج لنموذج يقوم على المزج بين الديمقراطية والحداثة والإسلام، بل لأنه يرفع صوته فى انتقاد إسرائيل بسبب احتلالها للأراضى الفلسطينية، ويقوم بامتداح حماس، بدلا من السلطة الفلسطينية التى تسيطر على الضفة الغربية وتتحلى بقدر أكبر من المسئولية وتقوم بالفعل ببناء أسس قيام دولة فلسطينية.

لا يوجد ما هو خطأ فى انتقاد انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان فى الأراضى الفلسطينية. ويمثل فشل إسرائيل فى استخدام قدراتها الخلاقة من أجل حل المشكلة الفلسطينية فراغا خطيرا آخر. لكنه من المقلق أن يندد أردوغان بالإسرائيليين باعتبارهم قتلة، وفى الوقت نفسه يستقبل بحفاوة فى أنقرة الرئيس السودانى عمر حسن البشير، الذى أدانته المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية نتيجة دوره فى سفك الدماء فى دارفور، ويستقبل باحترام الرئيس الإيرانى محمود أحمدى نجاد الذى قامت حكومته بقتل واعتقال آلاف الإيرانيين ممن طالبوا بإعادة فرز أصواتهم. وقد دافع أردوغان عن استقباله للبشير بقوله: «ليس ممكنا لمسلم ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.»

قال لى أحد محللى السياسة الخارجية الأتراك «نحن لم نعد نتوسط بين الشرق والغرب. لقد أصبحنا المتحدثين باسم أكثر العناصر رجعية فى الشرق».

وأخيرا، يوجد فراغ فى داخل تركيا. لقد شهدت أحزاب المعارضة العلمانية حالة من الارتباك خلال معظم العقد الماضى، بينما يعيش الجيش فى رعب من أجهزة التنصت، وجرى ترهيب الصحافة إلى الحد الذى جعلها تمارس الرقابة الذاتية بفعل الضغوط الحكومية. وفى سبتمبر الماضى، فرضت حكومة أردوغان غرامات قدرها 2.5 مليار دولار على مجموعة دوجان هولدنجز الإعلامية وهى الأكبر فى تركيا من حيث الحجم والتأثير، وكذلك الأكثر انتقادا للحكومة التركية بهدف تركيعها. وفى الوقت نفسه، أصبح أردوغان يوجه علنا النقد اللاذع لإسرائيل واصفا الإسرائيليين بالقتلة من أجل تعزيز شعبيته فى الداخل. وعادة ما يَطلِق على منتقديه «مقاولى إسرائيل» و«محاميى تل أبيب».

إنه لأمر محزن. ذلك أن أردوغان يتمتع بالذكاء والشخصية الكاريزمية، وبوسعه أن يكون شديد البراجماتية. كما أنه ليس ديكتاتورا. وأود لو أراه الزعيم صاحب الشعبية الأكبر فى الشارع العربى، على ألا يحقق ذلك بأن يكون أكثر راديكالية من الراديكاليين العرب، وأن يرضخ لحماس، بل بأن يصبح مدافعا عن الديمقراطية أكثر من القادة العرب غير الديمقراطيين، وأن يتوسط بطريقة متوازنة بين جميع الفلسطينيين وبين إسرائيل.

لكن ذلك ليس ما يقوم به أردوغان، وهو الأمر الذى يدعو إلى القلق. ربما يجب على الرئيس أوباما دعوته إلى قضاء عطلة نهاية الأسبوع فى كامب ديفيد من أجل تنقية الأجواء قبل أن تبلغ العلاقات الأمريكية ــ التركية نهاية الطريق الذى تسير فيه، أى الوقوف فوق منحدر شاهق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved