أشلاء صفقة.. وحطام استراتيجية
عبد العظيم حماد
آخر تحديث:
الخميس 20 يونيو 2019 - 11:00 م
بتوقيت القاهرة
على الرغم من كل التفاؤل الصاخب والواثق الذى بشر به الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أصدقاءه العرب والإسرائيلين، تحت عنوان صفقة القرن، فإن الرجل لم ينج، أو لم تنج سياسته فى الشرق الأوسط من المصير البائس لسياسات كل أسلافه القريبين والبعيديين، مع وجوب الانتباه إلى أوجه الاختلاف الجذرية بين هذا الرئيس وبين أولئك الأسلاف فى الشخصية، والإطار المرجعى، وفى مستوى التحالف مع اليمين الصهيونى، ودرجة التماهى مع الأهداف الإسرائيلية.
إذا اتخذنا إعلان قيام إسرائيل نقطة البداية، فإن كل رئيس أمريكى حاول إيجاد حل شامل للصراع العربى الإسرائيلى، وللقضية الفلسطينية، وكلهم بدأوا بحماس وتفاؤل، وكلهم رضوا من الغنيمة بالإياب، إلا ريتشارد نيكسون، وجيمى كارتر، وجورج بوش الأب، الذين لم يحققوا سوى نجاحات جزئية، والذين لم يستطع أى منهم تطوير نجاحه الجزئى إلى تسوية شاملة.
بغض النظر عن عشرات الوقائع، وآلاف الصفحات من التحليل والتعليل، فإن السبب الرئيسى لهذا الفشل هو الرفض الإسرائيلى ــ السافر قليلا والمضمر كثيرا ــ للانسحاب من الضفة الغربية (الفلسطينية) بالدرجة الأولى، ولمبدأ قيام دولة فلسطينية مستقلة تضم الضفة وقطاع غزة، وبعبارة أوسع دلالة، فإن السبب هو عقيدة التوسع الإقليمى الصهيونية، أو ما يسمى بمشروع إسرائيل الكبرى.
نعود إلى ترامب، وهنا أيضا يستحسن تجاوز التفاصيل الصغيرة، وسيول التصريحات والوعود إلى جوهر مشروعه المسمى بصفقة القرن، وهو تحديدا تحقيق مشروع إسرائيل الكبرى بموافقة الأطراف العربية وتعاونها وتمويلها، والأهم أن يحدث ذلك بموافقة الفلسطينيين أنفسهم قيادة وشعبا مقيما ولاجئين، مقابل ما سماه الرئيس الأمريكى بالازدهار من أجل السلام، أى بالتركيز على تنمية المناطق الفلسطينية التى لا تريد إسرائيل ضمها، باستثمارات عربية خليجية، وتسهيلات أردنية ومصرية، وكل ذلك مصحوب بحملة ضغوط أمريكية مكثفة اقتصاديا وسياسيا ودعائيا على الجانب الفلسطينى.
وعلى الرغم من تركيز ترامب وفريقه على المدخل الاقتصادى للتسوية الفلسطينية الإسرائيلية، وتكتمه هو وفريقه المختص على الشق السياسى للصفقة، فإنه لم يتحرج من اتخاذ قرارات وخطوات سياسية بالغة الأثر على التسوية المقبلة، وذلك بالاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، وبالاعتراف بمرتفعات الجولان السورية أرضا إسرائيلية، وإعلان سفيره فى تل أبيب الموافقة على ضم مساحات كبيرة من الضفة الغربية لإسرائيل الكبرى.
نعلم أن الفلسطينيين رفضوا مشروع ترامب منذ اللحظة الأولى، مدركين جوهره الحقيقى، ونعلم أيضا أن رهان ترامب على أصدقائه الخليجيين للضغط على الجانب الفلسطينى أو غوايته قد فشل، ونعلم ثالثا أن الرفض الشعبى ثم الرسمى فى كل من الأردن ومصر لتلميحات حول تبادل مساحات كبيرة من الأراضى لتسهيل صفقة القرن (أو مشروع إسرائيل الكبرى) قد أضاف سببا ثالثا ومهما للتأجيل المتوالى من جانب البيت الأبيض لإعلان الشق السياسى للصفقة المنتظرة، وإن تطلب الإخراج التذرع مرتين بالانتخابات الإسرائيلية العامة المبكرة.
لكل هذه الأسباب لم يتبق من تفاؤل ترامب الصاخب والواثق بالإتيان بما لم يأت به الأوائل من أسلافه سوى صيغة أو حيلة إنقاذ لماء الوجه، تتمثل فى ورشة عمل، وليس قمة موسعة لإعطاء الدفعة الاقتصادية القوية «لخطته للازدهار من أجل السلام»، كما كان التعهد والوعد من قبل، ومن مظاهر البؤس فى هذه الحيلة مقاطعة الفلسطينيين لها، ومطالبتهم جميع الدول العربية بعدم المشاركة، وفتور الحماس للمشاركة لدى كل من مصر والأردن، اللتين قد تشاركان من باب رفع العتب فقط، ومن مظاهر ذلك البؤس أيضا عدم مشاركة أى دولة من دول الاتحاد الأوروبى فى تلك الورشة، بما فى ذلك بريطانيا نفسها، فمن ذا الذى يمكنه توقع نتائج مؤثرة من كل هذا البؤس، وهكذا تمزقت صفقة القرن أشلاء، ورضى ساكن البيت الأبيض الحالى من الغنيمة بالإياب، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية تحديدا، ثم عاد ليلمح إلى أن صفقته قد لا تنجح، وأن الصراع العربى الاسرائيلى قد لا يشهد نهاية قريبة، وليردد فى حديثه يوم الثلاثاء الماضى إلى مجلة تايم أن الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط بالنسبة للمصالح الأمريكية قد تضاءلت كثيرا، لا سيما من حيث الحاجة إلى بترول الخليج، وهو بالضبط ما كان سلفه باراك أوباما قد قاله وانتقد بسببه فى حديث شهير لمجلة اتلانتيك قرب نهاية رئاسته، وكان أوباما قد قال إن الشرق الأوسط منطقة ميئوس منها، ويجب أن تصرف واشنطن اهتمامها بها إلى الشرق الأقصى وآسيا.
كان صخب ترامب وثقته المفرطة فى رؤيته للشرق الأوسط يتضمنان مشروعا طموحا ثانيا إلى جانب صفقة القرن، وقد سماه هو نفسه مشروع الناتو العربى، بحيث ترعى واشنطن تحالفا عربيا سنيا تشارك فيه إسرائيل، أو تتعاون معه ضد إيران الدولة والمشروع والنفوذ، وضد حلفاء إيران الإقلميين لا سيما حزب الله اللبنانى، وبعد سلسلة من الاجتماعات الاستكشافية تبين لكل الاطراف المرشحة عدم واقعية مثل هذا المشروع، لسبب بسيط وجوهرى، وهو افتقاده لمفهوم ومؤسسية القيادة السياسية المطلوبة والضرورية لأى تحالف، وعدم حماس نصف دول مجلس التعاون الخليجى له، ونقصد هنا الكويت وقطر وعمان، وبالطبع فلم تكن الأردن مستعدة للمخاطرة بالانضمام، ما دام هذا هو الحال فى مجلس التعاون الخليجى ذاته، وذلك نظرا لحساسية غالبية الشعب الأردنى من الانخراط فى تعاون سافر وشامل مع إسرائيل، وجاءت مقاطعة مصر اجتماع جدة منذ بضعة أسابيع للتباحث حول ذلك المشروع لتسدد واحدة من الضربات القوية له، وهنا أصيب مشروع الناتو العربى بالموت السريرى، ثم جاءت التطورات الساخنة الأخيرة فى مياه الخليج لتحول استراتيجية ترامب لمواجهة إيران بتحالف عربى سنى إسرائيلى بالكامل إلى حطام، إذ سرعان ما انسحب الأمريكيون والإيرانيون من حافة الهاوية العسكرية وتبادل الطرفان التصريحات، والتعهدات السرية بعدم اللجوء إلى الحرب، ثم لم يكتف الرئيس الأمريكى – الذى لا تنقصه الصراحة – بإعلان استعداده للتفاهم مع إيران (بشروط معينة طبعا)، بل إنه تخلى علنا خلال زيارته الأخيرة إلى اليابان عن هدف تغيير النظام السياسى الإيرانى، ثم زاد الأمر وضوحا فى حديثه الأخير لمجلة تايم بقوله إنه لن يحارب إيران إلا لمنعها من امتلاك قنبلة نووية، وعندما سئل عن مدى استعداده لمحاربة إيران لحماية تجارة النفط فى الخليج قال إنه يفضل عدم الإجابة، وهو ما يعنى بمفهوم المخالفة أن الولايات المتحدة لن تحارب إيران من أجل مصالح الخليجيين، وكانت هذه هى الضربة القاضية لمشروع الناتو العربى.
فى موضوع الناتو العربى يصعب القول إن الرئيس الأمريكى رضى من الغنيمة بالإياب، لأنه وإن كان أقر بفشل هذا المشروع، أو تسبب فيه فقد حصل على أكثر شىء يهمه وهو الأموال الخليجية فى شكل أثمان لصفقات تسليح ضخمة، أو فى شكل تعهدات باستثمارات هائلة فى الاقتصاد الأمريكى.
أخيرا لا عزاء للمثقفين العرب الذين أجهدوا أنفسهم لترويض المعارضة داخل المنطقة لكل من صفقة القرن والناتو العربى، سواء بالتطوع أو بالتوظف.