العنف والأديان.. ويهودية دولة إسرائيل

حازم الببلاوي
حازم الببلاوي

آخر تحديث: الإثنين 20 يوليه 2009 - 8:08 م بتوقيت القاهرة

 فى كتاب حديث صدر فى فرنسا عن «العنف والأديان» يبين الكاتب جان سوليه Jean Soler أن الدين اليهودى بوجه خاص أطلق نمطا فكريا لعقلية تؤدى إلى التعصب وإلغاء الغير. فوفقا لهذه العقلية هناك حق وباطل، وخير وشر، وهى أمور مطلقة.

فأنت قد تكون فى جانب أو الجانب الآخر، وليس هناك وسط بينها، فهذه أمور مطلقة لا نسبية بينها. ويقارن المؤلف هذه العقلية بالعقلية اليونانية أو الإغريقية والتى أفرزت الفلسفة ومن ورائها العلم، وحيث تسمح بالخلاف والاختلاف، والرأى والرأى المعارض وتتسع للخلاف والتوفيق بين المتناقضات ونسبية الأمور. فالفضيلة عند الإغريق هى فى الوسطية والاعتدال وليس فى التشدد والمبالغة.

فالشجاعة ليست مجرد نقيض الجبن بل هى فى الاعتدال بين التهور والجبن. وهكذا يفسح العقل الإغريقى المجال لتنوع الآراء وتعددها. ومع هذا التعدد والتنوع يتحقق ثراء الفكر وغناه. ومن هنا عرف الفكر الإغريقى تعددا فى المذاهب والفلسفات دون اتهام بالهرطقة أو الكفر. وليس الأمر كذلك مع الفكر اليهودى خاصةَ فى العهد القديم والتلمود. فليس هناك مجال لوجهات نظر مختلفة أو نسبية فى الأمور، هناك الحق المطلق فى جانب والباطل المطلق فى جانب آخر، إما الأبيض أو الأسود.

كذلك يرى الكاتب أن اليهودية لم تنشأ على الدعوة إلى التوحيد، كما يشاع، بل على أن إله اليهود ياهوا هو إله الشعب اليهودى وحده، فهو إله لهم وحدهم، وهم شعبه المختار، ومن ثم فالحق دائما معهم، وغيرهم دائما على باطل.

فالديانة اليهودية، فى بدايتها، ديانة لليهود من بنى إسرائيل، وهناك تفرقة مطلقة بين الشعب اليهودى وبين بقية الشعوب Goyim، فلبنى إسرائيل كل الحقوق والآخرون بلا حقوق. وإذا كان الشعب اليهودى قد عاش أغلب تاريخه منعزلا عن الآخرين ومتقوقعا على نفسه، فإن ذلك لم يكن فقط نتيجة لما يعانيه هذا الشعب من اضطهاد من الشعوب الأخرى، بل إنه يعود فى جزء كبير منه إلى رغبة هذا الشعب فى صيانة «نقائه» وعدم تلوثه بالشعوب الأخرى. فلا يجوز لليهود أن يزوجوا بناتهم لغير اليهود كما لا يجوز تناول الطعام معهم، لأن هذا يلوث نقاءهم. وهكذا فإن معاناة الشعب اليهودى خلال تاريخه الطويل إنما ترجع إلى عقدتين متكاملتين، «عقدة الاضطهاد» من الآخرين، وعقدة «الاستعلاء» عليهم. فهذا شعب يؤمن أنه دائما على حق وأنه وحده على حق، وأن الباطل دائما فى جانب الآخرين دائما.

ووفقا للأساطير اليهودية، أنه عندما دخل بنو إسرائيل إلى أرض فلسطين أرض كنعان بعد وفاة النبى موسى، فإن قائدهم جوشوا Joshua خليفة موسى، أمرهم بقتل وحرق كل من يجدونه فى المدينة، ربما باستثناء رحاب المرأة التى سهلت تسللهم إليها. ولذلك فإنه عندما سقطت أريحا (جيريكو) فى أيديهم فإنهم لم يتركوا أحدا حيا، رجلا كان أم امرأة، شيخا أو رضيعا بل حتى الحيوانات لم تسلم معهم، فقد قاموا عليهم قتلا وحرقا.

وكل هذا باسم الرب، لأنهم وحدهم بنو إسرائيل دائما على حق. ويبدو أن إسرائيل اليوم لم تتخلص كليا من تراثها القديم. أليس هذا بالضبط ما فعله الإسرائيليون أخيرا مع أهالى غزة بعد أكثر من ثلاثة آلاف سنة على دخولهم الأول لأرض كنعان!

ويرى مؤلف الكتاب أن الحضارة الغربية المعاصرة هى مزيج من التراث الدينى من المسيحية التى تأثرت كثيرا بالعهد القديم من ناحية، وبين التراث الإغريقى الرومانى من ناحية أخرى. فالأول يقوم على التعصب وتسلط الفكرة الواحدة والاعتقاد فى الحق المطلق وإقصاء الآخر، فى حين أن التراث الإغريقى على العكس يقوم على التعدد والتنوع ونسبية الأمور والاعتراف بالآخر، وأن الصواب هو فى الوسطية والاعتدال.

ويرى الكاتب أنه على حين كان «عصر النهضة» فى أوربا منذ القرن الرابع عشر إحياء للتراث الإغريقى والرومانى بما فيه من حرية وتنوع وتفاعل فى الآراء ونسبيتها والتجاوز عن القدسية والمطلق، فقد جاء «الإصلاح الدينى» فى القرن السادس عشر إحياء للتراث الدينى ومقدساته وإطلاقاته التى ورثها بشكل عام عن العهد القديم، ومن هنا جاء فكرا إقصائيا لايكاد يعترف بالغير أو الآخر. وكان نتيجته حروب دينية بلا هوادة بين أنصار القديم مع الكاثوليكية أو اتباع الجديد مع البروتستانية، وكلاهما يتحدث عن المطلق فى صراع لا تهاون فيه ولا تصالح. بل يرى الكاتب أن قبول البروتستانية أو اعتناق الكاثوليكية لم يستند إلى الاقتناع أو حرية الأفراد للاختيار للعقيدة المناسبة، ولكنهم يتبعون عقيدة الأمير أو الملك الذين يخضعون له، فهم يتوزعون بين الكاثوليكية أو البروتستانية وفقا لعقيدة أميرهم أو سيدهم. وهكذا يرى المؤلف أن هذه الحضارة الأوروبية المعاصرة هى وليدة هذا الصراع والتناقض بين تراث أثينا وروما المتحرر من ناحية، وبين تراث أورشليم المتشدد من ناحية أخرى. بل إنه يذهب إلى أن ما عرفته أوروبا خلال القرن العشرين من أيديولوجيات شمولية من شيوعية ونازية، فإنها ورغم عدائها «الظاهر» للأديان، فإنها لا تعدو فى الحقيقة أن تكون استمرارا لعقلية «أورشليم» فى فرض أيديولوجيات شمولية تحتكر الحقيقة المطلقة ولا تسمح بالاختلاف.

ونظرا لأن مؤلف الكتاب قد خدم فى دولة إسرائيل ممثلا لبلاده مستشارا ثقافيا مرتين، الأولى فى الفترة 1968 ــ 1973، والثانية فى الفترة 1989 ــ 1993، فقد وجد من المناسب أن يخصص الجزء الأخير من كتابه لمفهوم «إسرائيل الكبرى» وبالتالى الدعوة إلى «يهودية» إسرائيل، والتى أصبحت فى السنوات الأخيرة أحد أهم ملامح السياسة الإسرائيلية المعاصرة. وأهمية ملاحظات المؤلف ترجع إلى أنه يذكرنا بأن هذه الدعوة الجديدة ليست فقط خطرا على الحريات العامة لمواطنى دولة إسرائيل بل إنها تمثل انقلابا كاملا على مبادئ وأسس إنشاء دولة إسرائيل نفسها.

فيلاحظ المؤلف كيف أن «إعلان استقلال دولة إسرائيل»، والذى ألقاه بن جوريون فى 14 مايو 1948 عند إنشاء هذه الدولة، قد حرص على عدم الإشارة فى أى جزء منه إلى مفهوم «الأرض الموعودة» أو «الشعب المختار»، تأكيدا على أن الدولة الجديدة هى دولة علمانية مدنية ديقراطية لا تحمل أى صيغة دينية، واقتصر فى الفقرة الأخيرة منه على التأكيد على الثقة فى «صخرة إسرائيل»، والتى رأى فيها المؤرخون الإسرائيليون آنذاك صياغة أنيقة للتوفيق بين المتشددين الدينيين وبين الاتجاه الغالب بين الآباء الصهاينة من العلمانيين وعلى رأسهم تيودور هيرزيل مؤسس الحركة الصهيونية، وذلك بعدم إعطاء أى طابع دينى للدولة الجديدة. وفى هذا الاتجاه أرسل بن جوريون باسم الوكالة اليهودية خطابا فى 19 يوينو 1947 وقبل صدور قرار التقسيم مؤكدا أن «إنشاء دولة إسرائيل يتطلب موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأن هذه الموافقة لا يمكن الحصول عليها دون التأكيد على أن الدولة الجديدة تضمن حرية الاعتقاد لجميع المواطنين، وأن الهدف من الدولة هو عدم تأسيس دولة ثيوقراطية. ففى هذه الدولة الجديدة سيوجد مواطنون غير يهود من المسيحيين والمسلمين، ومن الضرورى توفير المساواة الكاملة فى الحقوق لجميع المواطنين، وعدم التمييز فى المعاملة بينهم سواء فى المسائل الدينية أو غيرها».

وهكذا ولدت الدولة الجديدة على أساس علمانى ديمقراطى، ولم يكن وراءها أى بواعث دينية وإنما فقط اعتبارات قومية ووطنية. وجاء إعلان الاستقلال فى 1948 مؤكدا الطابع القومى لإنشاء دولة إسرائيل، وهو ما أكده قبل ذلك المؤتمر الأول للصهيونية عام 1897. الهدف هو إنشاء «وطن قومى» لليهود بصرف النظر عن مكان إقامته، فلا إشارة إلى «أرض الميعاد» أو «وعد الله». وكانت الأوساط الصهيونية قد تداولت بالفعل إمكانية إنشاء هذا الوطن القومى فى الأرجنتين أو مدغشقر أو قبرص، بل كان اقتراح أوغندا هو الأكثر قبولا، الأمر الذى أيده هيرزل بقوة حيث عرض على المؤتمر السادس للصهيونية 1903 اقتراح أوغندا ووافق المؤتمر عليه. وهكذا فإن الدعوة الصهيونية كانت تستند إلى بواعث قومية متفقة فى ذلك مع الدعوات القومية السائدة فى القرن التاسع عشر ولم يكن لها أى ادعاءات دينية.

وقد تغير كل ذلك بعد حرب 1967، حين اكتشف اليهود فجأة أنهم احتلوا معظم الأراضى العربية المحيطة بهم من سيناء وكل فلسطين والجولان، فهنا استيقظت المشاعر الدينية الدفينة وبدأت فى الظهور، وأعلنت جولدا مائير فى مايو 1970 أن «الشعب الفلسطينى لا وجود له» وأن إسرائيل قد استعادت «الأرض التى وعدها الله بها».

وجاءت حرب 1973 وبدأت الثقة المطلقة فى الجيش الإسرائيلى تهتز، ورأى المتشددون من المتدينين أن نتيجة هذه الحرب الملتبسة وعدم نجاح الجيش الإسرائيلى فى صد الجيوش العربية إلا بمساعدات خارجية هائلة، إنما هو دليل على عدم رضا الرب على تصرفات أقطاب السياسة من اليسار خاصة حزب العمال. فاكتسب اليمين أنصارا جددا ونجح فى الانتخابات، وبدأت تظهر الجماعات المتطرفة مثل جوش أيمونيم.

ويذكرنا الكاتب كيف ظهر من بينهم طبيب اسمه باروخ جولدشتين، فحمل سلاحه فى 1994 وأطلق النار عشوائيا على المصلين فى المسجد الإبراهيمى بالخليل حيث قتل ما يقرب من ثلاثين منهم وجرح أكثر من مائة جريح. وبذلك كان هذا المواطن الإسرائيلى هو أول انتحارى على الأراضى الفلسطينية لقتل الأبرياء من المدنيين مما شجع فلسطينيى الداخل بعد ذلك، وليس قبله، إلى ظهور أعمال العنف من جانبهم. فالإرهاب وقتل المدنيين العزل بدأ فى داخل فلسطين بعمل إسرائيلى بقتل المصلين الأبرياء، مما فتح الباب بعد ذلك لمزيد من أعمال العنف والإرهاب من الجانبين. الإرهاب بدأ فى داخل فلسطين بعمل إسرائيلى، ولكننا ننسى.

والآن، تعلن حكومة نتنياهو أن الاعتراف «بيهودية» إسرائيل هو شرط مسبق للسلام، وهو لا يخجل فى نفس الوقت من إثارة العالم ضد إيران باعتبارها دولة «ثيوقراطية» تسعى للحصول على أسلحة نووية. ويأتى هذا التحذير، للطرافة، من الحمل الوديع «إسرائيل النووية» والتى تطلب لنفسها الاعتراف بها «دولة ثيوقراطية» لبدء مفاوضات السلام، ودون أن تتساءل عن ترسانتها النووية! وكل هذا باسم السلام. أصل اللى اختشوا ماتوا. والله أعلم

www.hazembeblawi.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved