دليل المسلم الحزين
جلال أمين
آخر تحديث:
السبت 20 يوليه 2013 - 9:30 ص
بتوقيت القاهرة
منذ ثلاثين عاما نشر الكاتب الفذ حسين أحمد أمين (الذى هو أيضا أخى) كتابا مهما بهذا العنوان: «دليل المسلم الحزين» ذاع صيته، واعتدت طباعته عدة مرات، فى مصر وبلاد عربية أخرى، واستقبل استقبالا حافلا، كما نشرت له ترجمة باللغة الفرنسية.
كانت فكرة الكتاب الأساسية قوية ومقنعة، ويمكن تلخيصها فى أن المسلم فى عصرنا هذا حزين لانه لا يستطيع التوفيق بين ما يؤمن به ويفرضه عليه دينه، وبين ما تفرضه عليه الحياة المعاصرة من ضرورات الحياة اليومية، وما تحثه يوميا على اتباعه من أنماط السلوك.
انه يرى نفسه إذا اتبع ما يفرضه عليه دينه مضطرا للتنكر لما أصبح مألوفا وسائدا بين الناس، وإذا ساير المألوف والسائد بين الناس وجد نفسه مضطرا للانحراف عن مبادئ دينه وتعاليمه.
المؤلف يرى الحل فى التمييز بين مبادئ الدين الخالدة على مر العصور، وباختلاف الأماكن والثقافات، وبين التفسيرات التى تواجه ظروفا تاريخية واجتماعية معينة (أو ما يسمى أحيانا بالاجتهاد).
الأولى الهية وثابتة لا تتغير، والثانية بشرية تتغير بتغير الزمان والمكان. أما «الحزن» الذى يصيب المسلم المعاصر فهو (فى رأى مؤلف الكتاب) ليس إلا نتيجة العجز عن هذا التمييز. إذ إن هذا التمييز بين الخالد والعارض يسمح للمسلم بأن يوفق بين متطلبات دينه ومتطلبات حياته اليومية، أى بين متطلبات الدين والدنيا.
هذه الدعوة إلى التمييز بين الجوهرى الثابت، والثانوى العارض، ليست فقط دعوة صائبة فى رأيى، ولكن أيضا تكرر القول بها، فى صورة أو أخرى منذ الأيام الأولى من التاريخ الإسلامى.
فالقول المأثور عن النبى عليه الصلاة والسلام. (أنتم أعلم بشئون دنياكم) ينطوى على هذا التمييز، وكذلك المأثور عن الخليفة عمر بن الخطاب، من وقف حد السرقة فى عام المجاعة، وكذلك فتاوى عظماء الفقهاء الذين مارسوا الاجتهاد منذ ذلك الوقت، والذين رفضوا اعتبار مسايرة بعض متطلبات الظروف المتغيرة، خروجا على مبادئ الدين أو تنكرا له.
•••
لم يكن غريبا أن يعود هذا وذاك إلى ذهنى بمناسبة ما جرى فى مصر فى الأيام الأخيرة من سقوط حكم الإخوان المسلمين، وخلع الدكتور محمد مرسى من رئاسة الجمهورية، بعد مظاهرات شعبية كبيرة، عبرت فيها ملايين من المصريين عن رفضهم لهذا الحكم، وعن سخطهم على أداء نظام الإخوان خلال السنة التى حكموا فيها مصر. كان تدخل القوات المسلحة ضروريا لإسقاط النظام، ولكن هذا التدخل ما كان ليحدث لولا هذا الرفض الشعبى الكاسح للنظام.
كان من الطبيعى أيضا أن يصيب هذا السقوط العديد من المصريين بالحزن والقنوط، وهم المنتمون لجماعة الإخوان أو المؤيدين لها ممن رفضوا وصم حكم الإخوان خلال العام الماضى بالفشل.
ليس من الصعب أن نتفهم هذا الشعور بالحزن والإحباط. فالفرصة التى اتيحت لجماعة الإخوان فى منتصف عام 2012، لتحقيق ما ظلوا يحلمون به طوال ثمانين عاما كانت فرصة ذهبية لإثبات جدارتهم، خاصة انها جاءت بعد ثمانين عاما أيضا من المعاناة والتشريد والتعذيب على أيدى الحكومات المتعاقبة.
فإذا كان تقييم هذا العدد الغفير من المصريين لتجربتهم فى الحكم، هذا التقييم السلبى، مع ان أعدادا كبيرة من هؤلاء المصريين الذين ثاروا ضدهم فى الأيام القليلة الماضية، كانوا قد صوتوا لصالحهم فى انتخابات الرئاسة فى 2012، أو على الأقل كانوا مستعدين عن طيب خاطر لإعطائهم فرصة إثبات جدارتهم، فما الذى حدث بالضبط خلال هذا العام حتى يفقدوا تعاطف هذا العدد الكبير من المصريين؟
من الممكن الإجابة على هذا السؤال بطرق مختلفة، والاسترسال فى تعداد ما ارتكبه الإخوان فى الحكم من أخطاء، بما فعلوه وكان الأجدر بهم الامتناع عنه، وما أصدروه من إجراءات سرعان ما تراجعوا عنها، وما لم يفعلوه وكان بإمكانهم فعله.
ولكنى أفضل أن أنحو منحى مختلفا، وهو التأكيد على ذلك الفشل الذريع الذى أظهره حكم الإخوان فى السنة الماضية فى ممارسة ذلك التمييز المهم الذى بدأت مقالى بالكلام عنه.
فمنذ أيام حكمهم الأولى بدا الإخوان منشغلين بأمور مدهشة أو شكلية، وكأنهم عاجزون عن إدراك ما يشغل الناس فى مصر ويمثل همومهم الحقيقية، ويتوقون إلى تحقيقه اليوم قبل الغد، وإذا بمن تسلم مقاليد الحكم من الإخوان مصرون على تعريف الحكم الصالح بما يناسب ظروفا مختلفة تماما عن الظروف التى يعيشها المصريون والعالم اليوم، من ذلك الانشغال بصيغة القسم الذى يؤديه عضو البرلمان الجديد.
أو ما إذا كان من الواجب قطع جلسة البرلمان بمجرد سماع الأذان للصلاة، أو وصف ختان البنات بأنه «مكرمة للمرأة»، أو الدعوة إلى التساهل فى زواج القاصرات، أو إصدار قانون بإغلاق المحال التجارية فى العاشرة مساء (فى ظروف بطالة قاسية) بحجة تسهيل أداء صلاة الفجر فى موعدها، أو إثارة أسئلة من نوع: هل تجوز تهنئة الأقباط بعيدهم أو لا تجوز، أو ما إذا كان الاحتفال بشم النسيم حلالا أم حراما، وما إذا كان منع رقص البالية سيساهم فى نشر الفضيلة.. إلخ.
أثناء انشغالهم بمثل هذه الأمور لم يقوموا بعمل واحد مفيد للتخفيف من حدة البطالة، أو من حدة التضخم، أو لوقف التدهور فى حالة السياحة، أو فى حالة الأمن ومن ثم فى الإنتاج والاستثمار محليا كان أو أجنبيا.. إلخ.
الخلاصة أنهم تجاهلوا ما يتفق مع جوهر الدين، الذى لابد أن يحقق الصالح الأساسية للناس، وينشر التعاطف بينهم، لا أن يوسع من فرقتهم ويشعل نار البغضاء فى قلوبهم.
•••
عندما نفد صبر الناس، وهبوا للثورة على كل هذا، قادت هذه الثورة إلى عزلهم عن الحكم، أصاب الجماعة الحاكمة ومؤيديها الحزن الشديد والأسى، وبدا عليهم الاستغراب من أن يكون هذا جزاء تمسكهم بالدين وحرصهم على تطبيق مبادئه، والحقيقة أنهم لم يفعلوا أكثر من أنهم اتخذوا قرارا بالانفصال عن العالم، وبالهجرة من العصر بأكمله، فوجب تنبيههم من جديد، كما حاول المجتهدون العظام عبر التاريخ الإسلامى، إلى خطورة رفضهم لهذا التمييز بين جوهر الدين، وبين مظاهر السلوك التى لابد أن تتغير بمرور الزمن وتغير الظروف.
إن بعضهم كثيرا ما يستخدمون لفظ «علمانى» لوصف من يصر على هذا التمييز. بل واستسهل بعضهم أن يعتبر «العلمانى» كافرا مع أن الذى دفعه إلى هذا التمييز ربما كان ليس التنكر للدين، بل حبه وتقديره لدينه وحرصه على ألا يقترن الدين فى نظر الناس بسلوك غير مبرر عقليا.
هل كان ذلك المجتهد العظيم الشيخ محمد عبده، الغيور على دينه ووطنه، كافرا لانه دعا إلى الكف عن استخدام الماء الراكد فى الوضوء فى المساجد، فتنتقل العدوى من المتوضئ المريض إلى السليم، بدعوى أنه «لم يجر العمل على ذلك؟» وعندما قال ان استخدام المياه الجارية فى المواسير وتصب من الصنبور (الحنفية) ليس فيه أى تنكر للدين؟ لقد اتهم هذا الرجل العظيم بالكفر عندما قال بذلك، منذ أكثر قليلا من مائة عام، ووصلته رسائل تهدده بالقتل لهذا السبب.
فهل يعقل أننا بعد مرور أكثر من قرن على وفاة محمد عبده، مازلنا عاجزين عن التمييز بين جوهر الدين وبين ما يتصل به من عوارض، وينشغل بعضنا بتكفير بعضنا الآخر لهذا السبب؟