حركة يوليو 1952 ومتلازمة فبراير 1942
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 20 يوليه 2020 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
تتوافق غالبية الأدبيات السياسية والروايات التاريخية التى انبرت فى سبر أغوار حركة الجيش فى يوليو 1952، على أن حرب فلسطين عام 1948، كانت الشرارة الأولى التى أشعلت جذوتها بعدما هيأت الأجواء لتشكيل تنظيم الضباط الأحرار، قبل أن تتكاتف انتخابات نادى ضباط الجيش فى ديسمبر من عام 1951، ثم حريق القاهرة بعدها بشهر واحد، ليضعا اللمسات الأخيرة لعملية التحضير المعقدة والمحفوفة بالمخاطر لذلك الحراك المصيرى.
لكن قراءة سوسيولوجية متأنية ومعمقة لوقائع تلك الحقبة الحرجة والمفصلية من تاريخ مصر الحديث، تشى بأن الإرهاصات الحقيقية لاختمار حركة الضباط، التى أسماها مفجروها كما قطاع عريض من المصريين حينئذ بـ«الحركة المباركة»، قبل أن ينعتها عميد الأدب العربى طه حسين فى مقال نشره بعد انطلاقها بـ 13 يوما، بـ«الثورة»، إنما تعود إلى ما قبل اندلاع تلك الحركة بما ينيف على عقد كامل من الزمن، حيث واقعة الرابع من فبراير عام 1942. ففى كتابه المعنون «سقوط نظام.. لماذا كانت ثورة يوليو لازمة؟!» أورد الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل أن «ما حدث فى هذا اليوم كان أكبر من زهو السفير البريطانى لدى القاهرة، وقتذاك، السيد مايلز لامبسون بقوته، وخوف الملك فاروق على عرشه، وأكبر من تلقف النحاس باشا لرئاسة الحكومة من وسط العاصفة، حيث كانت ليلة 4 فبراير 1942 هى الطريق إلى 23 يوليو1952».
فلقد استبدت بالمحتل الإنجليزى فى ذلك اليوم العصيب، رغبة عارمة فى التخلص من حكومة على ماهر، بعدما جنحت لإعلان حياد مصر خلال الحرب العالمية الثانية، التى اعتبرها الشيخ المراغى، شيخ الأزهر فى حينها «حربا أوربية لا ناقة لمصر فيها ولا جمل»، فى الوقت الذى كان الموقف العسكرى بميادين القتال بالغ الحساسية ويمضى فى غير مصلحة بريطانيا وحلفائها بعد اجتياح هتلر لبولندا وفرنسا، بالتزامن مع وصول قوات الألمان بقيادة ثعلب الصحراء روميل إلى مدينة العلمين بصحراء مصر الغربية.
وبجريرة ما اعتبروه توجها عدوانيا لحكومة ماهر، سعى الإنجليز إلى إقالتها وتعيين حكومة بديلة أكثر تفاهما معهم وأشد تقديرا لحساسية موقفهم الميدانى، كما تحظى فى ذات الوقت، بظهير شعبى. وبينما كانت تعم البلاد شعارات من قبيل «لو رشح الوفد حجرا لانتخبناه»، و«الاحتلال على يد سعد زغلول خير من الاستقلال على يد عدلى يكن»، فقد اتجهت بوصلة الإنجليز تلقاء حزب الوفد والنحاس، ومن ثم وجه لامبسون إنذارا شديد اللهجة للملك فاروق، جاء فيه: «إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة من مساء اليوم أن النحاس باشا دعا إلى تأليف الوزارة، فستتحمل تبعات ما يحدث». وتحت وطأة ذلك التهديد، الذى تأكدت جديته بحصار الدبابات والمدافع الإنجليزية لقصر عابدين، اضطر الملك الشاب مرغما إلى تكليف النحاس بتأليف الوزارة، والذى لم يتردد بدوره طويلا فى القبول بعد الموافقة على شرطيه، بسحب الإنذار الإنجليزى، وأن يترأس حكومة وفدية غير ائتلافية.
ولما كان فاروق، الذى ظل ينظر إليه مصريون كثر فى حينها بعين مغايرة خلافا لباقى ملوك الأسرة العلوية، يتطلع لمد الجسور مع الجماهير أملا فى إنهاء حالة الجفاء التى كانت تكتنف علاقتها بالقصر طيلة عقود مضت، مستغلا حداثة سنه كشاب عصرى مثقف، فقد هرع إلى تحرى السبل الكفيلة بتعزيز شرعيته وتعظيم صلاحياته متوسلا الخلاص التدريجى والناعم من ربقة الحصار المزدوج المتمثل فى جماهيرية النحاس وقهر الإنجليز. فبعدما تلقى إنذار لامبسون، حاول فاروق، قدر استطاعته، أن يبدو متماسكا وصامدا وأن يتصرف كملك لدولة مستقلة بموجب تصريح 28 فبراير 1922، غير أن خطورة الموقف العسكرى لبريطانيا وحلفائها خلال الحرب لم تكن لتسمح له بالمضى قدما على هذا الدرب، ومن ثم جاء حادث 4 فبراير 1942 ليطيح بتطلعات الشاب الحالم، بعدما أظهرته وقائعه وتداعياته المريرة كسلطة شكلية يجسدها ملك ضعيف منزوع الصلاحيات، يتحكم فى مصيره المحتل الانجليزى، بعدما سد عليه لامبسون جميع السبل للمراوغة والتحايل حفاظا على ما تبقى من هيبة العرش، حينما قال له: «لا تحاول أن تلعب بالنار عليك الاستجابة فورا للإنذار».
بمنأى عن ضغوط لندن المتوالية عليه لكبح جماح النزعات الاستقلالية والشطحات التمردية للملك الغر، والتى تكللت باللوم العنيف الذى وجهه إليه السير «الكسندر كادوجان» الوكيل الأول لوزارة الخارجية البريطانية، ومسئول التنسيق بين رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية، كان لامبسون على المستوى الشخصى، يضيق ذرعا بفاروق ولا يثق به، خصوصا بعدما تكشفت له صلاته المريبة والمبطنة بالألمان أثناء الحرب، حتى أن السفير البريطانى الساخط كان يتمنى ألا يستجيب فاروق للإنذار لتتم الإطاحة به، إذ تملكه الندم لاحقا لأنه لم ينتهز الفرصة ويتخلص من الملك المراوغ، ألمانى الهوى، بإجباره على التنازل عن العرش فى تلك الليلة المشئومة، حتى بعدما رضخ للإنذار البريطانى قبيل دقائق من انقضاء مهلته.
ومثلما كان متوقعا، لم يكن ذلك الحادث الجلل ليمر مرور الكرام على المصريين، ملكا وجيشا وطبقة سياسية. فمن جانبه، وبعد هذا الأمر المدوى، استسلم فاروق لشعوره المؤلم بالمهانة والانهزام حتى انجرف إلى غياهب التخبط فى مسارين متوازيين: أولهما، الاستغراق فى حياة المجون، التى أجهزت على ما تبقى له من رصيد شعبى حتى مهدت السبيل لإزاحته إثر اندلاع حركة الضباط فى بضع سنين. أما ثانيهما، فكان الجنوح للانتقام من النحاس والانجليز، والسعى قدر المستطاع لترسيخ دعائم حكمه، عبر آليتين: تمثلت أولاهما فى العمل على النيل من شعبية الوفد وضرب وحدته وتقليص دوره بإذكاء خلافاته الداخلية وإفساح المجال أمام صعود تيارات يمينية منافسة كالشيوعيين والإخوان، والسماح فى أغسطس من ذات العام بإطلاق صحيفة «الإخوان المسلمين»، التى صدَر الإخوان أولى صفحاتها بصورة للملك ممسكا بمسبحة، تعلوها عبارة «القدوة الصالحة». بينما تجلت ثانيتهما فى السعى لتقوية الحرس الملكى، ليتعزز توجه فاروق نحو الاستعانة بالجيش وتسخيره لحمايته والحيلولة دون تكرار مأساة اجتراء الدبابات البريطانية على محاصرة القصر. وتوخيا لهذا المقصد، طفق الملك الشاب يحشد المعدات والأسلحة والذخيرة للحرس الملكى، فى خطوة فاقمت قلق سلطات الاحتلال، كما أثارت حفيظة باقى أفرع ووحدات الجيش، خصوصا الوطنيين المستاءين من وصفه بـ«جيش المحمل» والرافضين لاختزال دوره فى تقوية شوكة الملك والذود عن عرشه فى مواجهة صلف الإنجليز فقط، لاسيما بعد أن غدا هذا التوجه سببا رئيسا لاهتزاز صورة ومكانة الجيش لدى جموع المصريين، خصوصا عقب الهزيمة المروعة فى حرب فلسطين عام 1948.
فى المقلب الآخر، وبينما بدأت شعبية حكومة النحاس فى التراجع التدريجى، جراء سياساتها المهادنة نسبيا للإنجليز، على نحو ما تجلى فى فرض الأحكام العرفية واعتقال منتقدى الملك ومناهضى الحلفاء، الأمر الذى أفضى إلى تعاظم الغضب الشعبى من الثالوث المتمثل فى الانجليز والقصر والأحزاب، التى تبارت بدورها فى كيل الانتقادات والاتهامات للنحاس جراء قبوله تولى وزارة على أسنة رماح الاحتلال، على حد وصف أحمد ماهر، اعتبرت الطبقة السياسية ذلك الصلف البريطانى عدوانا صارخا على استقلال مصر المعلن عام 1922، وانتهاكا سافرا لنص معاهدة 1936 المبرمة بين البلدين، بما يعرض العلاقات المصرية البريطانية لخطر محقق، حتى أقدم على ماهر فى صباح الخامس من فبراير 1942، بوصفه رئيسا لمجلس النواب، على توجيه رسالة إلى السفير البريطانى ندد فيها بما حدث ليلة 4 فبراير، وبإصرار الحكومة الإنجليزية على انتهاك سيادة مصر وتقويض تجربتها الديمقراطية عبر فرض شخص بعينه ليشكل الحكومة ومصادرة حق المصريين فى الانتخاب.
أما على مستوى الجيش، فقد هيأ الحادث الأجواء لاختمار جنينى ومتنام لحركة الضباط بعدما تأكد لأعضائها، بما لا يدع مجالا للشك، أن الوطن لن يعرف طريقه إلى الحرية والنهضة طالما بقى الاحتلال والملك والنخب الهشة والأذناب الفاسدة، ومن ثم دفع حادث 4 فبراير 1942 ومن بعده مآسى حرب فلسطين عام 1948، الضباط الأحرار إلى الالتئام فى تنظيم سرى، لاسيما بعد أن سمحت معاهدة 1936 لعناصر وطنية تنتمى إلى مختلف شرائح الطبقة الوسطى، بالانضمام لصفوف الجيش عبر الالتحاق بالكلية الحربية حينئذ. ورويدا رويدا، اتسعت دائرة تأييدهم، ليس فقط داخل صفوف الجيش ولكن فى مؤسسات شتى وعلى مستوى الجماهير، الأمر الذى شجعهم على التحضير لحركة، تباينت آراء المراقبين والمؤرخين بشأن توصيفها اصطلاحا فى بادئ الأمر، حتى حسم الجدل، عقب تأييد جموع الشعب لها، وما أحدثته لاحقا وتدريجيا من تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية شاملة وعميقة فى المجتمع المصرى على مدى عقد آخر من الزمن، ليتم إدراجها فى مصافى الثورات الشعبية.
من ثنايا ظلمات أهوال الرابع من فبراير 1942، انبلج نجم الضابط الشاب محمد نجيب، الذى كان فى حينها برتبة صاغ «رائد»، بينما دفعته حماسته الوطنية الجارفة واستياؤه البالغ من محاصرة قوات الاحتلال الإنجليزى لقصر عابدين وتهديد ملك البلاد بالعزل حالة عدم إذعانه لإملاءاتها، إلى الذهاب مغاضبا صوب القصر ليتقدم باستقالته من الجيش احتجاجا على مذلة العجز المخزى عن البر بقسم الولاء بالذود عن سيادة واستقلال البلاد وحماية شرعية ملكها. بيد أن مسئولى القصر وجهوا له الشكر على مشاعره الوطنية المتوهجة ورفضوا قبول استقالته، غير مدركين أن القدر كان يدخر الضابط الواعد ليوم موعود، ودور مشهود، بعد أن يبلغ أشده ويصبح لواء أركان حرب، كى يتجشم مغامرة قيادة حركة الضباط الأحرار ليلة 23 يوليو 1952، ويوجه الإنذار للملك بالتنازل عن العرش لابنه أحمد فؤاد فى موعد غايته الثانية عشرة من ظهر يوم 26 يوليو، ومغادرة البلاد بالطريقة التى يختارها فى موعد غايته السادسة من مساء ذات اليوم، ثم ليغدو فى عقبها أول رئيس للجمهورية المصرية، التى أعلنت فى 18 يونيو 1953.
بيد أن الجمهورية الوليدة ظلت كما الثورة الجنينية المتفاعلة، أسيرة لمتلازمة 4 فبراير 1942، إذ لم تبرأ من أعراضها وتداعياتها، إلا بعدما تجاوزت مصر الجديدة محنة العدوان الثلاثى الغاشم نهاية عام 1956، والتى عانت خلالها مجددا، ويلات إنذار أنجلو ــ فرنسى، تلاه اعتداء عسكرى بريطانى فرنسى إسرائيلى، يتوخى عبثا كسر الإرادة الوطنية لأمة، أبت إلا النهوض وعبور الأزمة على وقع إنذار سوفيتى أيده العالم بعدما سطره المصريون ببسالتهم وصمودهم ودمائهم.