أنساك؟!
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 20 يوليه 2021 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
سألت فأخطأت، وقلَّ ما تخطئ فى أمر يتعلق بى، سألتنى بدلال لا يجيده إلا قلة من الرجال، سألتنى إن كنت نسيت. كيف أنسى واسمك زائر مقيم فى أكثر صفحات مفكرتى وهوامش كراساتى القديمة والجديدة على حد سواء. بالأمس فقط قرأت فى إحدى أولى صفحاتها سطرا سجلت فيه ملاحظة تحمل عتابا لك ولم أكن أعرف اسمك. كتبت راجية أن تغض بصرك أو تباعد بين نظرة وأخرى. خمنت عمرك وقتها فلم تتجاوز فى التخمين السادسة عشرة، أى مثل عمرى وربما أقل بعام أو ما اقترب من عام. كنا فى مثل هذا العمر نستهين بالشباب المتساوين معنا أو المتقاربين فى العمر. إلا أنت. مفكرتى تقول فى صفحات عديدة عن تلك المرحلة أننى انبهرت بك وتأثرت بما كان يردده الأساتذة وبعض الزملاء والزميلات عنك. بقيت عيناك لعام أو أكثر لا تفارقنى فى موقعى شبه الثابت من مدرج المحاضرات وتلاحقنى فى بوفيه الكلية وموقف الأتوبيس.
تخرجنا ودخلنا معا غابة العمل. اخترنا المهنة نفسها. اقتربنا أكثر. كنت أنت من علمنى كيف أخطو خطواتى الأولى فى عالم يتحكم فيه الذكور. كنت تقول عن الرجال إنهم ليسوا نسخا متكررة لرجل واحد. هناك أنواع شتى من الرجال وتحكم تصرفاتهم مقاييس كثيرة ورغبات كثيرا ما تتضارب. كنت أنقل لأمى، وهى صديقتى، ما تشجعنى أنت عليه وما تمنعنى عنه. تذكر ولا شك عندما مرضت أمى، أخذتّك إلى منزلنا وسمحت لنا بأن ندخل غرفتها. يومها اختارت لك مكانا لتجلس، اختارت الموقع الأقوى إضاءة والمواجه لها والمريح لك. خرجنا من اللقاء لأودعك عند باب البيت فإذا بصوتها يستدعينى لتنبئنى أنها ارتاحت لك. أنت شاب توحى بالثقة ولا تكذب، ونظراتك لى تشى بعاطفة ما. لم أنقل لك فى حينه ما قالت رغم شكوكى القوية من أنها أرادت لرسالتها أن أنقلها لك على الفور عند باب البيت وقبل أن تغادر. لم ألبِ رغبتها، ولا تسألنى من فضلك لماذا عصيت رغبتها وكانت أمرا. عندما حل المساء أودعت الزيارة بتفاصيلها مفكرتى كعادتى وقرأتها قبل دقائق من الآن وأنا أفكر فيما أقول لك ردا على استفسارك، إن كنت نسيتك!.
صدرت التعليمات أن أتوجه للعمل فى بلد سبق أن عملت أنت فيه وعشت فيه سنوات. من متابعتى لك ذهبت وأنا أعلم أنك أحببت هذا البلد حبا جما، عشقت الناس والآثار والجبال والبحيرات والشواطئ. أعلم أنك جبت البلد من أقصى شماله إلى أعماق جنوبه وأنك ربما تركت من بصماتك على الأجساد والأحجار ما لم يتركه عاشق قبلك. بدأت، بعد وصولى بأيام، أجوب البلد مقتفية أثرك. مشيت على وقع قدميك حيثما كان ضروريا المشى، تعرفت إلى شخوص من الجرانيت والحجر الجيرى لم أكن أعرف أنها على هذا القدر من الجمال والإبداع. تخيلتك واقفا أمام كل تمثال لا تغادره إلا للوقوف أمام تمثال آخر جاذب للافتتان. كثيرا ما راودنى الأمل فى أن تكون قد تحدثت معها عنى. أذكر أننا وكنا نقضى ساعة الأصيل ذات يوم فى حديقة الأندلس أنك وعدت أنه أينما حللت وانبهرت بشىء أو شخص جميل أن تكتب لى عنه. أوفيت بالوعد حينا وتراخيت فى أحيان أخرى فتراخيت أنا أيضا. كتبت لى مطولا عن تمثال بعينه. ذهبت إليه مرات. وقفت أمامه مشدوهة تماما كما توقفت أنت منبهرا قبلى بعشر سنوات. تذكرت كلماتك عنه، وتذكرت بشكل خاص كلمات النحات للتمثال بلهجة الآمر الناهى أن يثبت اكتمال خلقه فينطق. صدقنى، كدت أفعل الشيء نفسه، كدت أصرخ فيه، لا ينقصك يا تمثال إلا النطق.
كم تمنيت أن تكون بجانبى فى هذه اللحظة تمد يدك إلى فمى تمنع الصرخة كما كنت تفعل لتمنع تصرفات أخرى. لم أصرخ على كل حال. وجدت نفسى أتوسل إلى التمثال وأطلب منه برفق وحنان أن يتفهم انبهارنا فينطق.
•••
مرت الأيام، أو السنوات العديدة، والتقينا فى مقهى على أطراف مدينة لم توجد قبلنا، أو وجدت فى شكل أسوار وقلاع من الطين وتبعد عن البحر أميالا فى قلب صحراء بلا نهاية. مرة أخرى أردت أن تتعارفا أنت وعائلتى. الفتاة التى عرفتها سنين طوالا صارت هى نفسها عائلة. تزوجت وأنجبت ولم أحصل منك على تبريك وتمنيات. وبمناسبة وجودنا فى هذه البلدة التى تكثر من التردد عليها ولك فيها أصدقاء عديدون دعوتك على لقاء تعارف. تعارفتم واستأذنت مبكرا فى الانصراف. تركتنى لأيام أعيد تركيب مشهد اللقاء عساى أفهم أسباب البرودة وبعض الارتباك من جانب كل أطراف اللقاء، بمن فيهم أنا صاحبة الدعوة ومنظمة اللقاء وقائدة الحديث الذى لم يكن فى أغلبه غير متبادل. شعرت بك وحاولت النفاذ إلى داخل هذا العقل المتدثر بطبقات من الحساسية. عرفتك قارئا فاهما للأشخاص الذين تلتقيهم لأول مرة، وعرفتك مجاملا لأبعد الحدود، ولكنى عرفتك أيضا كتابا مفتوحا لمن يريد أن يقرأك ويفهمك، تكفينى الصفحة الأولى لأعرف ما بك وما تغير وما تحاول إخفاءه عنى.
•••
تسألنى إن كنت نسيت؟ كيف أنساك والصفحات عنك فى مفكرتى هى الغالبة والأكثر قراءة من جانبى. كتبت عنك كل ما قلت لى وما قيل عنك وعنى وما تفعل وتخبرنى به أو لا تخبرنى. كتبت فيها عن أحلامى ودورك فيها وعن شكوكى وظنونى. فيها صفحات بلا كلمات، فقط صور لك وحدك وصور لى أطل منها على صورك. مفكرتى شهادة عمرية لكل منا. أصارحك ولن أخجل أو أكون قليلة المجاملة، أخفيت عنك على مر العقود أننى أقارن بين صورك لأعرف كم تجعيدة استجدت فأنعمت عليك بمزيد من سمعة الحكمة وسداد العقل.
ثم تسألنى إن كنت نسيت.