التاريخ السياسى لإسرائيل.. خطة الأمم المتحدة للتقسيم

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 20 يوليه 2024 - 5:45 م بتوقيت القاهرة

كنت قد أوقفت مقالات هذه السلسلة التى تتناول تاريخ إسرائيل السياسى منذ القرن التاسع عشر وحتى اللحظة، فى شهر يونيو الماضى، بالكتابة عن الهولوكوست وتأثيره على بناء الدولة اليهودية. وبعد راحة قصيرة من الكتابة أعود لأكمل مقالات هذه السلسلة اليوم بالحديث عن عام ١٩٤٧، والذى بدأت فيه الحركة الصهيونية العالمية تقترب من تحقيق حلمها فى إنشاء وطن قومى لليهود وذلك بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهير رقم ١٨١ والذى قضى بتأسيس دولتين؛ إحداهما لليهود والأخرى للعرب، تعيشان جنبًا إلى جنب متكاملتين من الناحية الاقتصادية!

قبل القرار الذى صدر فى شهر نوفمبر من عام ١٩٤٧، كانت بريطانيا تتعرض للكثير من الضغوط الداخلية والخارجية التى جعلتها تقرر أن تنهى الانتداب على فلسطين. فداخليًا، كانت الحرب العالمية الثانية أنهكت الاقتصاد البريطانى تمامًا، صحيح أن بريطانيا انتصرت فى الحرب، لكنها أصبحت تعانى من الناحية الاقتصادية، وقد انعكس ذلك على ملفين فى سياستها الخارجية؛ الأول هو الملف المتعلق بسياستها تجاه مستعمراتها حول العالم، حيث لم تعد قادرة من الناحية الاقتصادية على إدارة وتحمل هذا العبء، أما الملف الثانى فهو بداية اعتمادها على الولايات المتحدة بحثًا عن الدعم الاقتصادى والتعافى بعد هذه الحرب الطويلة التى جعلت الأخيرة تتحرك إلى موقع القيادة بعد سنوات من العزلة!
أما خارجيًا، فقد زادت ضغوط حركات التحرر الوطنى بعد انتهاء الحرب العالمية، وهو ما كان يعنى أن بريطانيا أصبحت تقع تحت ضغوط هائلة من أجل إنهاء استعمارها لهذه الأراضى ومنح شعوبها الاستقلال الذى يبحثون عنه خاصة أن البيئة الدولية بعد نهاية الحرب أصبحت مشجعة للاستقلال والحصول على حق تقرير المصير، وكانت بريطانيا لذلك هى الأكثر تعرضًا لمثل هذه الضغوط، بسبب اتساع إمبراطوريتها الاستعمارية!
أما فيما يخص فلسطين تحديدا، فبالإضافة إلى كراهية العرب لبريطانيا واعتبارها المسئول الأول عن إضاعة فلسطين ومنحها للصهاينة، فلم تكن تتمتع الإمبراطورية بعلاقات جيدة بالحركة الصهيونية أيضًا خصوصًا بعد أن قررت بريطانيا وضع بعض القيود على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومع مأساة الهولوكوست زادت الضغوط الصهيونية والأمريكية على بريطانيا لإنهاء هذه القيود خاصة مع إعلان الرئيس ترومان التزامًا أخلاقيًا وسياسيًا بإعادة توطين أكثر من ١٠٠ ألف يهودى ويهودية من الناجين من معسكرات النازى فى فلسطين التاريخية. هكذا أصبحت بريطانيا فى مرمى النيران من قبل الجميع، الصهاينة والعرب والأمريكان وشعوب مستوطناتها، فلم تجد بُدًا من التسليم بأن أفضل الحلول لها هو إنهاء هذا الانتداب!
• • •
هكذا بدأت بريطانيا فى مطالبة الأمم المتحدة بتسلم ملف فلسطين منها تمهيدًا لإنهاء الانتداب، وبالفعل، قررت الأمم المتحدة فى مايو من عام ١٩٤٧ تشكيل لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين أو ما أصبحت تُعرف اختصارًا بالـ«يونسكوب».
قررت الأمم المتحدة أن تكون اللجنة محايدة من حيث العضوية، ومن ثم رفضت أن يكون بها ممثلون لبريطانيا، ثم امتد القرار ليشمل منع كل أعضاء مجلس الأمن - دائمى العضوية- من التمثيل فى اللجنة بالإضافة إلى استبعاد العضويات العربية وانتهى القرار بدعوة ١١ دولة لتشكيل اللجنة وهى: أستراليا وكندا والهند وإيران وأورجواى وبيرو وجواتيمالا ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وهولندا والسويد. قامت كل دولة بتعيين ممثل رئيسى وآخر احتياطى، كما قامت بعض الدول بتعيين سكرتير لأعمال الممثل عنها.
قامت لجنة اليونسكوب بزيارة فلسطين فى يونيو من العام ذاته وقررت الوكالة اليهودية التعاون معها، فيما قررت اللجنة العربية العليا التى كانت تمثل العرب فى فلسطين منذ أيام الثورة العربية الثانية (١٩٣٦-١٩٣٩) مقاطعة اللجنة واعتبارها منحازة للصهاينة، وهو ما ساعد الوكالة اليهودية على عرض وجهة نظرها منفردة خلال هذه الزيارة، كما أن الأخيرة قامت باستخدام العديد من الوسائل لإظهار الود الشديد لأعضاء اللجنة فيما قاطعها معظم السكان العرب أو أعطوا لها شهادات مختصرة وغير معد لها بشكل جيد!
خلال هذه المهمة الأممية والتى استمرت لنحو ٣٣ يومًا (من ١٨ يونيو وحتى ٢١ يوليو) قامت اللجنة بزيارة ١٥ مدينة فى فلسطين التاريخية، كما قابلت ممثلين عن سلطة الانتداب البريطانى بالإضافة إلى مقابلة ممثلين لبعض المنظمات الإرهابية اليهودية مثل الهاجاناه وأرجون، كما عقدت ١٢ جلسة استماع قرأت أو استمعت فيها إلى شهادات من ٣١ ممثلًا يهوديًا عن العديد من المنظمات المدنية والحكومية اليهودية وبعض المواطنين منهم حاييم وايزمان، الرئيس السابق للمنظمة الصهيونية، والذى قابل اللجنة باعتباره مواطنًا عاديًا (كان قد ترك رئاسة المنظمة الصهيونية فى ١٩٤٦).
كان معظم من قابلتهم اللجنة من الصهاينة أو المؤيدين لهم، مع عدد قليل للغاية من اليهود غير الصهاينة الذين تبنوا فكرة الدولتين، وبالطبع قامت الحركة الصهيونية بإعداد جيد لهؤلاء الذى ذهبوا من أجل الإدلاء بشهاداتهم، كما تحدث البعض لاحقًا عن قيام الحركة بالتجسس على أعضاء اللجنة لمعرفة تحركاتهم وآرائهم حول الدولة اليهودية التى طالب بها معظم من قابلتهم اللجنة من اليهود!
قامت اللجنة فى ٢١ يوليو بزيارة لبنان، وقابلت عددًا من المسئولين اللبنانيين، وفى مقدمتهم رئيس الوزراء رياض الصلح، ثم عقدت اجتماعًا مع وفد ممثل لجامعة الدول العربية، كما قام بعض أعضاء اللجنة بزيارة مختصرة إلى الأردن وقابلوا فيها الملك عبدالله بن الحسين (عبدالله الأول)، ثم ذهبت اللجنة بعد ذلك إلى أوروبا لزيارة بعض الأماكن التى لجأ إليها يهود أوروبا الناجين من النازية.
انتهت أعمال اللجنة بتقديم تقريرها إلى الجمعية العامة وفيها عرضت وجهات نظر الأعضاء، وكانت الأغلبية من أعضاء اللجنة تدعم إنهاء سلطة الانتداب وإنشاء دولتين واحدة لليهود والأخرى للعرب، وهو نفس الاقتراح الذى كانت قد تبنته بريطانيا منذ الثورة العربية الثانية مع خلاف حول ترسيم الحدود ومساحة كل دولة منهما. بينما دعمت الأقلية من أعضاء اللجنة فكرة الدولة الواحدة ذات القوميتين.
• • •
فى ٢٣ سبتمبر قامت الأمم المتحدة بتعيين لجنة أخرى عرفت باسم اللجنة المخصصة لفلسطين لمناقشة تقارير لجنة اليونسكوب وسط معارضة عربية كون أن اللجان المخصصة تكون أكثر عرضة للضغوط الخارجية (الصهيونية)، مطالبين بأن يتم تشكيل لجنة سياسية من داخل الأمم المتحدة نفسها، لكن صوتت الأغلبية داخل الجمعية العامة لصالح قرار إنشاء اللجنة المخصصة. قامت اللجنة المخصصة بدورها بإنشاء لجنتين فرعيتين؛ الأولى لمناقشة تقرير الأغلبية داخل اليونسكوب والذى نادى بحل الدولتين، بينما اللجنة الثانية (والتى كان ضمن عضويتها ٦ من الأعضاء العرب) لمناقشة تقرير الأقلية داخل اليونسكوب والذى نادى بدولة فلسطينية فيدرالية واحدة بها مجتمعان يهودى وعربى مع تقسيم القدس كعاصمة فيدرالية! وقد قامت كل لجنة فرعية بتسليم تقريرها النهائى فى نوفمبر عام ١٩٤٧ لينتهى الأمر بدعوة الجمعية العامة لأعضائها للتصويت على قرار التقسيم، ويتم ذلك فى ٢٩ نوفمبر بتصويت الأغلبية داخل الجمعية العامة لصالح قرار التقسيم!
صوت ٣٣ عضوا لصالح قرار التقسيم (حوالى ٧٢٪)، فيما اعترض عليه ١٣ عضوا، بينما امتنع ١٠ أعضاء عن التصويت، فيما غاب عضو واحد عن حضور الجلسة!
كان من أبرز المصوتين لصالح القرار الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا وفرنسا والبرازيل والاتحاد السوفيتى، فيما كانت الدول المصوتة ضد القرار هى مصر ولبنان والعراق وتركيا والهند واليونان وإيران وسوريا واليمن وباكستان والسعودية وأفغانستان وكوبا، فيما كان أبرز الممتنعين عن التصويت بريطانيا والصين ويوغوسلافيا فيما تغيبت تايلاند عن الحضور!
كان التصويت مقررًا له فى الأساس أن يكون يوم ٢٦ نوفمبر، لكن ضغطت الحركة الصهيونية من أجل تأجيل التصويت، وذلك فى محاولة لإقناع المزيد من الدول بالموافقة، ويرى البعض أنه لو تم عقد التصويت يوم ٢٦ لربما حصل قرار التقسيم على أغلبية، لكن كان من المستبعد أن تكون أغلبية الثلثين اللازمة لتمرير القرار!

أستاذ مشارك العلاقات الدولية والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved