«لغتنا الجميلة» حية وباقية إلى ما شاء الله
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 20 أغسطس 2022 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
وحول لغتنا الجميلة نستأنف الحديث.. هناك من يرى ــ بإطلاق ــ أن هذه اللغة جامدة ومتحجرة، وأنها فى حاجة ماسة إلى التطوير (بل إنها تتطور بالفعل على غير إرادة أصحابها، هكذا!) وفى اتجاه مغاير، هناك من يرى بأنه يجب ألا تمس اللغة على الإطلاق لا من قريب أو بعيد!
أما أنا فمع رأى العلم الذى يرى أننا ندرس اللغة فى وجودها الاجتماعى، فاللغة ظاهرة اجتماعية، ويجب أن ننظر لها فى صيرورتها الاجتماعية، وتعدد وتنوع وتغير مستوياتها، ونعود إلى الدرس العلمى المنهجى لهذه اللغة فى كل أبعادها؛ التاريخية، والوصفية، والمقارنة.. إلخ.
وبعبارةٍ أخرى، فإننا يجب أن نعود إلى الدرس العلمى الذى قدِم عن وحول تاريخ هذه اللغة، وطبيعتها وخصائصها، والبحث عن تكويناتها الظاهرة والعميقة، ومستوياتها التى آلت إليها خلال المائتى سنة الأخيرة على وجه الخصوص.
ــ 2 ــ
العربية، مثلها مثل كل لغات الدنيا، لها تاريخ عريق وحضور عارم، وأنتجت نصوصا فى ظل حضارة زاهية كانت هى لغتها الأولى باقتدار، ووصلت إلى الذروة فى فترة من الفترات، ثم نالها ما نال غيرها من الحضارات من تراجع وفتور، وفق قوانين التطور والعمران.
أما عن واقع اللغة العربية، وحاضرها فى المائتى سنة الأخيرة، فيمكننا رصده ودراسته والتعرف عليه من خلال ممارسات المتحدثين بها، والذين اتخذوها وسيلة التواصل والتعبير الأولى، والذين أبدعوا بها إبداعاتهم المختلفة من شعر ونثر وفكر.. إلخ، ويعنى ذلك ببساطة أنها لغة حية وموجودة وقائمة بالفعل، وإن شابها ضعف فى جانب من الجوانب أو تعمد إفساد الملكة اللغوية عموما فى جانب آخر، أو تأثرت بما تأثر به غيرها من تراجع وتحدُر ثقافى وفكرى وعلمى عام، ويعنى أنها لغة حافظت على وجودها وحياتها حتى وقتنا هذا من خلال ممارسات أفرادها وإبداعات الصفوة الممتازة من الناطقين بها.
وبالتالى فأنا أتحفظ ــ قليلا أو كثيرا ــ على تلك الأوصاف التى تُطلق بلا تحديد ولا تعيين، من قبيل «الجمود»، «التحجر»، «الموات»... إلخ ما يقودنا فى التحليل الأخير إلى تعميماتٍ مخلة، وأحكام مبتسرة وغير دقيقة فى توصيف الظاهرة اللغوية فى الثقافة العربية، وبين المتحدثين بها.
قد يكون أصابها ضعف أو عوار فى جانب من الجوانب أو مستوى من المستويات، لكن ليس بإطلاق ولا تعميم ولا تجريد ولا حكم قاطع مانع!
ــ 3 ــ
لقد بات فى حكم المعلوم ــ تاريخيا وعلميا ــ أن لغتنا العربية تعد من أقدم لغات العالم الحية، وأقدرها كذلك على البقاء وأكثرها أهمية وقيمة، وليس هذا الحكم نابعا من عصبية قومية أو دينية إنما ــ وكما يقول أستاذنا العلامة د.محمود على مكي ــ يرتكز على حقائق مرجعها إلى طبيعة هذه اللغة، وقدرتها الإبداعية، وقد اعترفت المؤسسات الدولية والعالمية بهذه الحقيقة، وبأهمية العربية وقيمتها، فأصبحت إحدى اللغات الست التى يجرى بها العمل فى أروقة منظمة الأمم المتحدة والأجهزة والمؤسسات والهيئات التابعة لها.
وصحيح أن للغة ــ والثقافة التى تتخذها وسيلة للتعبير ــ حياة مثل حياة البشر؛ طفولة وشبابا واكتهالا ثم شيخوخة، وقد استخدم فيلسوف الحضارة والتاريخ ورائد علم الاجتماع ابن خلدون هذا التشبيه فى حديثه عن تطور العمران (أى الحضارة)، إلا أن ذلك لا يعنى صيرورة حتمية إلى الزوال والفناء! فقد تجاوز العلم الإنسانى هذه النظرات التطورية الحتمية! فظواهر العمران والتمدن واللغات والثقافة تختلف كثيرا عن صيرورة الكائن الحى الذى تفضى به الشيخوخة إلى الموت.
فهى (أى هذه الظواهر الإنسانية، وفى القلب منها اللغة؛ والحديث هنا عن اللغة العربية تخصيصا) إذا أوتى لها من المرونة ما يكفل لها الاستجابة لتطور الحياة فإنها تكون قادرة على استرداد عافيتها وتجديد شبابها، وهذا هو ما حدث (ويحدث) مع العربية.
ولعل تاريخ اللغة العربية ذاته يجسد خير مثال على هذا الأمر، فقد ظهرت منذ العصر الجاهلى فى صورة ناضجة مكتملة، تحمل كل العناصر التى تكفل لها النماء والتطور بل والانتشار أيضا، وظهر الإسلام ونزل بالعربية كتابها المقدس (القرآن الكريم) فكان ذلك اختيارا واصطفاء منحها حضورا وخلودا وانتشارا لم تحظ به لغة غيرها.
ــ 4 ــ
ويكاد يجمع مؤرخو علم اللغة العربية أن القرآن قد منح اللغة العربية أولى مراحل تطورها، بفضل القرآن نفسه، فهو لم ينزل إلا باللغة المعروفة لدى العرب، غير أنه توسع فى دلالات كثيرة من ألفاظها، منتقلا بها إلى آفاق جديدة تلائم المجتمع الإنسانى الجديد الذى بشرت به دعوة الإسلام، وقد رصد غير باحث وأستاذ متخصص فى علوم اللغة وتاريخها وتطورها ذلك التطور البين فى الألفاظ المتعلقة بالعبادات والتشريع الذى ينظم حياة المسلمين فى مجتمعهم الناشئ، بعد أن انتقلت من مجموعة من القبائل المتنافرة إلى مجتمع إنسانى متجاوز للجنسيات والأعراق واللغات، وكان ذلك خطوة أولى ــ كما يقول أستاذنا الدكتور مكي ــ فى تطور العربية تبعتها خطوات أخرى فسيحة حينما تحولت هذه اللغة من وسيلة للتعبير بين سكان الجزيرة العربية إلى لغة العالم الإسلامى كله الذى امتد من أواسط آسيا وتخوم الهند إلى شطآن المحيط الأطلسى فى المغرب والأندلس، ناسخة ما كان مستخدما فى تلك الرقعة المترامية من اللغات.
ــ 5 ــ
وأخيرا.. أدعو لمن يهمه الأمر، ولكل من يحرص على لغته من منظور إنسانى وحضارى وثقافى، أن يتجاوز دعوات الإنشاء والخطابة، ودعوات الاتهام بالانغلاق والجمود، وطلب التغيير والتطوير بغير علم ولا دراية ولا فهم، أن يرجعوا إلى العلماء الثقات المتخصصى، وأن يقرأوا ما أُنجز من أعمال علمية رائعة وجهد غير مسبوق بالعربية، وبغيرها من اللغات، فى دراسة العربية واستجلاء خصائصها الذاتية، ودراسة مستوياتها، فالفهم تملك للمفهوم، وأول التجديد ــ دائما ــ قتل القديم درسا.