مشكلتي مع الحضارة الأمريكية
هنا أبوالغار
آخر تحديث:
الثلاثاء 20 أغسطس 2024 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
فى حياتى ما كرهت ثقافة وحضارة قد كرهى لثقافة وحضارة أمريكا النهارده، عمرى ما حبيتها لكن عمرى ما كرهتها كده. زرتها مع أهلى ١٩٨٤ ومع أبويا ١٩٨٧ وبعدين ١٩٩٢ وبعدين قعدت ٢٠ سنة رافضة أروح، لا هى وحشانى ولا أنا وحشاها، خصوصًا بعد حرب العراق زعلنا من بعض قوى أنا وهى، بس اضطريت أروحها مع بنتى ٢٠١٢ ومن ساعتها كل واحد فينا من سكة.
• • •
مشكلتى معاها مش السياسة بس، مشكلتى معاها إنها فى رأيى دمرت أولوياتنا كأفراد ومجتمعات. دخلت فى مسامنا وبراعم التذوق، وأعصاب الأنف وآذاننا وأعيننا، احتلتها بكل ما هو مصنع وغير حقيقى. أكل ولبس ومنهج حياة كلها تربط أجسادنا وأذهاننا فى حلقة من التعود والعوز والإدمان. كلها تخدم الاستهلاك، وتجعلنا عبيدا لدى منتجاتهم وتقطع الوصل بيننا وبين الطبيعة. نستهلك أو ندمر البيئة، نعرض أجسادنا وعقولنا لأسلوب حياة أبلانا بالمرض العضوى والعقلى والنفسى وجعلنا منعدمى التواصل مع كل ما هو حقيقى فى الدنيا. اللبس بوليستر، الأكل مصنع فى المعمل، نسمع صوت الموتور فى كل مكان فى البيت وخارجه؛ سيارات، تكييفات، مولدات الموسيقى والغناء وحتى آذان الصلاة نسمعها فى مكبرات صوت، السيجارة وبدائلها القميئة جزء من بيئتنا اليومية، واجهات المحلات والإعلانات كلها ألوان وأنوار صارخة تصور لنا أناسًا يعيشون حياة غير حقيقية بملابس وسيارات وبيوت وابتسامات كلها بلاستيك وتلعب على عقولنا لتقنعنا بأن طريق السعادة فى أن نقتنى ما يقتنوه، مع أنهم جميعًا يعانون من الاكتئاب والتوتر ويتلقون علاجات صنعت خصيصًا، ليتحملوا هذه الحياة، ويستمروا ترسًا فى عجلة الاستهلاك.
• • •
النمط الأمريكى للحياة كان فى البداية جاذبًا بسبب الوفرة، بلد بكر، كبيرة وبها خيرات، تقدم الفرص لكل من يعطيها جهده وشبابه وعمره، تقدم الأكل واللبس والفسحة بكميات تفوق احتياجك وبجودة أقل، استهلك ارمى اشترِ جديدًا، دائرة تشفط عمرك فى المكتب أو المصنع وتجعلك أسير قسط العربية والمنزل والكريديت كارد.
مفيش مفر ومهرب من الثقافة دى ونمط الحياة ده، أصبح واقعا وطبيعيا. لو روحت مصر ولا الهند ولا دبى ولا أوروبا ولا أمريكا، الأكل واحد، المحلات واحدة، المولات واحدة، مكبرات الصوت والدخان والعادم واحد. مفيش طبيعة متسابة على مزاجها. الشجر يا يتقلع يا يتقصقص، البحر لازم يخترعوله ألعاب بالموتور علشان الأمخاخ خلاص مش متحملة قعدة فى هدوء مع الطبيعة. لازم موسيقى عالية من كافيتريا أو سماعات على كل شمسية، لازم يبنوا منتجعًا يشوف الطبيعة وهو نفسه فى الحقيقة بيشوه الطبيعة. كل حاجة لو حللناها فيها بلاستيك الأكل والمياه والهوا.
• • •
فالصو فى فالصو؛ هى أغنى بلاد العالم وفيه نسبة ١١٪ تحت خط الفقر و٢١٪ أميين، بلد طورت نظاما ديمقراطيا قوى يضمن نزاهة انتخاباتها لكنه لا يضمن التعددية الحزبية، ولا يضمن التمثيل العادل لفئات المجتمع. بلد يحميه بعدها عن العالم من الحروب لكنها تذهب إلى كل ركن فى العالم لتحارب هناك، دائما تحت شعار الديمقراطية والحرية. تاريخها ملىء بمساندة الانقلابات العسكرية ضد المدنيين وتمويل الجماعات المسلحة لمحاربة الحكومات غير المساندة لها. كله لحماية مصالح اقتصادية، البترول، الغاز، الكوبالت، الممرات الملاحية.. حروب العالم قايمة وملايين بيموتوا علشان موارد طبيعية وأسواق.
• • •
كم حضارة عظيمة بتاريخها وطبيعتها ولغتها وفنها ومعمارها فرمتها أقدام أمريكا سواء بالحرب المباشرة أو غير المباشرة أو بالتدخل فى السياسة والاقتصاد؟ نبص بس على منطقتنا فى آخر ١٠٠ سنة: فلسطين، لبنان، العراق، أفغانستان، سوريا، ليبيا، السودان، مصر، السعودية.. ده بعيد عن حضارة سكان أمريكا الأصليين اللى بيحاولوا يسوقوا أنهم كانوا ناسًا بلا حضارة، ولا أمريكا الجنوبية، ولا آسيا وما أدراكم ما آسيا واللى حصلها من ثقافة الاستهلاك!
• • •
الثقافة أى ثقافة كانت ممكن تكون مقبولة لو كانت سامحة لثقافات ثانية تبقى على قيد الحياة، لكن أبدا ثقافة الوفرة لوثت حياة الجميع، دخلت جميع الخلايا حتى خلايا الإنسان اللى معندوش وفرة. محدش بيصلح بنطلون ولا شراب ولا جزمة، مصروف البيت فى أفقر الأسر بيتصرف فى أكل مكيس ومعلب (بيشبع لأنه مليان طاقة، فيه سكر أو ملح كثير علشان طعمه يكون جاذبا ونأكل منه كثير، رخيص والعيال بتحبه والمصانع تشتغل وتقبض) جابلنا أمراض السكر والضغط والسمنة والاكتئاب وأمراض المناعة والحساسية، زى ما جابلهم بالضبط! وفرة بدون جودة، عك مغلف فى ورق شيك وإعلانات غالية تشجعنا نشترى، لبس ثمنه يسمح أنك تجيب أكثر من احتياجك الحقيقى بكثير، لكن قلة الجودة وماكينة الموضة والترند يضمن إنك محتاج كل سنة جديد وأنك أنت وأولادك لازم تتكسوا صيف وشتا وإن كله لازم يكون «براند» علامة تجارية لا تضمن الجودة، لكنها تضمن يعلم الجميع ثمنها.
كله عنده تليفون ولاب توب لكن بيستعملهم على مواقع تواصل اجتماعى تضمن أنه يفضل أسيرا للاستهلاك، ثقافة غيرت مقاييس النجاح وحولتها إلى أرقام، السعادة والصحة والسلامة والأسرة ليست نجاحات تستحق الجهد والاستثمار، النجاح يقاس بالمال والسلطة وليس بكيفية الحصول عليهما.
• • •
إذا لم ننتبه ستكون هذه آخر حضارات الأرض، مش علشان أقواها لكن علشان حضارة غشيمة لا تفكر فى الأجيال القادمة أبدا، استهلكت طاقة الكوكب وموارده الطبيعية ومياهه ودمرت تاريخه ولوثت العقول.
الكورونا كانت بروفة لجمال العالم بدون بشر، كل شيء فى العالم كان أفضل بدوننا! انتبهوا فالعالم كان فيه أقوى مننا وراح لما البيئة أصبحت غير مناسبة لحياته، احنا مش أحسن من الديناصورات!