أمريكا والشرق الأوسط.. سنوات مضطربة
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 20 سبتمبر 2012 - 8:15 ص
بتوقيت القاهرة
أيا كان الشخص أو الجهة التى صاغت وموَّلت ووزعت الفيلم المسىء للإسلام.. يجب أن نعترف لها بأنها حققت أهدافها بل لعلها تجاوزت ما هدفت إليه، فترددات ما فعل الفيلم ستبقى معنا لسنوات وربما عقود قادمة. أرى بعضا من مقدماتها، أو أسمع، وقد صار جزءا من واقع راهن أو أضاف عمقا لواقع آخر كان الظن أنه إلى زوال. يطول الحديث فيما جرى خلال الأيام القليلة القادمة وما زال يجرى، ولكن أظن أنه يستحق أن نلم شتاته فى نقاط محددة تساعدنا عند تقويم عواقب هذه الترددات فى الأسابيع المقبلة. أبدأ بأبسطها وأكثرها وضوحا.
أولا: كانت إحدى أهم مشكلات الحزب الجمهورى فى الحملة الانتخابية ضعف ميت رومنى الشديد فى مجال السياسة الخارجية. كانت المقارنة تجرى بين خبرة باراك أوباما وتجربته خلال السنوات الأربع الماضية ولا خبرة أو تجربة من جانب ميت رومنى. تزداد المقارنة حدة إذا أضفنا تصرفات رومنى السيئة خلال رحلته التى أخذته إلى بريطانيا والقدس وبولندة. وهى الرحلة التى لم يفته فيها أن يرتكب خطأ جسيما فى كل مدينة زارها ومقابلة أجراها، حتى قيل إن كل خطأ ارتكبه أساء إلى مكانته الدولية خارج الولايات المتحدة كما فى داخلها. على الناحية الأخرى نجحت إدارة باراك أوباما فى نسج سمعة عن إدارته للسياسة الخارجية الأمريكية فيها مبالغة ولكن مؤثرة إعلاميا ونفسيا. كان أهم خيط من خيوطها ما أطلق عليه الأسلوب الناعم الذى استخدمه مع زعماء العالم كافة، ولكن عندما احتاج الأمر استخدم أوباما أساليب «جراحية»، كالقصف من طائرات بدون طيار (درون) كما فعل فى أفغانستان والعراق واليمن وكالاغتيال، كما حدث مع أسامة بن لادن وعدد من قادة القاعدة فى اليمن، وربما مع آخرين لم نسمع عنهم بعد. يعتقد أصحاب رأى عديدون أن أزمة الفيلم المسىء بتعمد والمظاهرات التى نشبت فى عدد كبير من المدن الإسلامية، وبعضها متعمد ومقتل دبلوماسيين وعسكريين أمريكيين فيها، أساءت إساءة كبرى إلى مكانة أوباما وسياسته الخارجية، لحساب ميت رومنى وغيرت جذريا فى حسابات المقارنة والموازنة بينهما فى الحملة الانتخابية.
ثانيا: استفاد بنيامين نتنياهو فائدة لم يتوقعها. إذ ظل يضغط بكل الوسائل المتاحة أمام جماعات الضغط الصهيونى وأعضاء الكونجرس والحزب الجمهورى وأجهزة الإعلام الأمريكى ليفرض على أوباما الموافقة على أن تشن إسرائيل حربا ضد إيران. وكان رفض إدارة أوباما صريح وعنيدا ومستندا فى الغالب إلى قرار من القيادة العسكرية التى اقتنعت بعدم جدوى هذه الحرب التى قد تبدأ إسرائيلية ولكن بأى حال لن تنتهى هكذا. يقدرون أن تتهدد مصالح أمريكا فى الخليج والشرق الأوسط عموما، أو تندلع بشراراتها حروب أخرى فى مناطق صراع جاهزة للانفجار مثل بحرى الصين الجنوبى والشرقى. لذلك لم يدع نتنياهو الفرصة تضيع إذ سارع فور وقوع أزمة الفيلم بتوجيه رسالة إلى الشعب الأمريكى من فوق رأس أوباما وإدارته معتمدا على الغضب السائد فى المجتمع ضد الإسلام والمسلمين، وعدم رضا قطاع غير صغير فى الرأى العام عن التقارب المتزايد وثوقا وعمقا ومظاهر واتفاقات بين إدارة أوباما والحكومات ذات الصبغة الدينية التى ورثت ثورات الربيع فى عدد من الدول العربية.
ثالثا: ظهر واضحا تماما أن المحافظين الجدد الذين خططوا لحرب ضد أفغانستان والعراق، وهم أنفسهم الذين وجهوا السياسة الخارجية لحكومة الرئيس بوش فى غير صالح العرب والمسلمين بل وفى اتجاهات عدوانية، وأثاروا حملة الكراهية الشنيعة ضد الإسلام فى كل مكان فى أمريكا والغرب، وهى الكراهية التى حاول أوباما فور وصوله إلى الحكم معالجتها من خلال خطابيه فى القاهرة وإسطنبول، محاولا سد فجوة هائلة بين الشعوب العربية والشعب الأمريكى، كشفت أزمة الفيلم وملحقاتها عن أن المحافظين الجدد لم يختفوا كظاهرة أمريكية. وجدناهم فجأة منتظمين فى مراكز بحثية تحت أسماء جديدة ومزودين بتمويل ضخم ومستعدين بطاقة متجددة لإثارة حملة كراهية جديدة ضد الإسلام والمسلمين، وما زال أكثر قادتهم من كبار قادة التيارات الصهيونية المتشددة والليكودية وصاحبة النفوذ والقرار فى دوائر الكونجرس والإعلام.
رابعا: لا جدال أن الأزمة أكدت أن الثورات العربية ما زالت مؤثرة رغم كل ما يبدو على السطح من علامات هدوء فى أحسن الأحوال أو انفراط وتفريط وتشويه وإحباط فى أسوأها. يقول المعلقون الأجانب ــ وأتفق معهم ــ إن سلوكيات الحكام العرب فى دول الثورات تؤكد بوضوح على أنهم يضعون ألف حساب للرأى العام فى بلادهم قبل أن يفكروا فى الرأى العام الأجنبى وحكومات الدول الأخرى. كذلك بات فى حكم المؤكد أن كثيرا من القيادات الإسلامية المعتدلة أدركت بكل الوضوح الممكن أن مستقبلهم مع التيارات الدينية المتطرفة، سواء المشاركة فى الحكم أو الخارجة عنه، محفوف بمخاطر جمة وأشواك مسمومة. من ناحية ثالثة، بدا لنا ولغيرنا فى الخارج أن الديمقراطية التى جاءت بها الثورات الربيعية تزداد تجذرا، ودليلنا على ذلك بين دلائل كثيرة، أن الطبقة الوسطى المتعلمة والمسيسة، تعاملت مع الأزمة بعقلانية وكانت صمام أمان وقدمت برهانا على رفضها الأعمال المثيرة التى تمارسها العناصر الساعية إلى ترسيخ حكم التطرف أو عودة الاستبداد وحكم العسكريين.
خامسا : يعتقد ريتشارد هاس رئيس مجلس الشئون الخارجية فى نيويورك ــ وأميل إلى اعتقاده ــ أن حادث الفيلم وتوابعه ينبئ بمستقبل شديد الالتهاب فى الشرق الأوسط، وأن ما يظهر لنا حتى الآن كانفعالات هنا وهناك ليس سوى قشور تخفى طبقات من توترات وأنواع من الغضب لم يتمكن أوباما طوال السنوات الأربع من التخفيف منها. لن أبالغ كما بالغ محللون محترمون تنبأوا بأن التغيرات المتوقعة فى الإقليم والعلاقات الإسلامية الأمريكية ستكون من نوع التغيرات «التكتونية» كالتى تحدث فى القشرة الأرضية. ومع ذلك أشارك هاس فى تصوره أن خيارات واشنطن خلال الشهور والسنوات المقبلة ستكون صعبة.
●●●
نعرف ويعرفون أن الناس فى الشرق الأوسط،حسب رأى مارتين إنديك سفير أمريكا الأسبق فى اسرائيل مثلا وآخرين، لن يغفروا لأمريكا دعمها المتواصل والعنيد لحكومات مستبدة على مدى عقود دمرت المؤسسات وقمعت الشعوب وقدمت الذريعة والتربة الخصبة للتطرف لينمو ويتشدد، ولن يغفروا لها دعمها لإسرائيل وتوسعها واستيطانها لأراضى الشعب الفلسطينى وخضوع سياسييها لأهواء قادة الصهيونية وأموالهم. من جهة أخرى تعرف دول أوروبا كما تعرف روسيا والصين وعدد من الحكومات العربية ويردده دانيال كيرتسر السفير الأمريكى الأسبق فى كل من مصر وإسرائيل، أن أمريكا فشلت فى التقريب بين العرب وإسرائيل، أى فشلت فى تسوية الصراع العربى الإسرائيلى. بمعنى آخر، وكنتيجة لتراكم هذه الأمور، سوف يستمر فى التآكل نفوذ أمريكا فى الشرق الأوسط بينما تستمر فى الصعود فيه المصالح الأمريكية.
●●●
هذه الفجوة بين النفوذ والمصالح وصفة جاهزة لمستقبل علاقات بين أمريكا ومنطقة الشرق الأوسط معبأ بالغيوم والأعاصير والعنف وكثير من النوايا الحسنة.