الغنوشى ومحنة الخروج من موقع القيادة
صحافة عربية
آخر تحديث:
الأحد 20 سبتمبر 2020 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
نشرت جريدة المغرب التونسية مقال للكاتبة آمال قرامى.. نعرض منه ما يلى.
يجثم إرث الماضى على التجربة السياسية المعاصرة للحركات الإسلاموية فيجعل أتباعها ممزّقين بين الإعلان عن الولاء للشيخ المؤسّس والتعبير عن الحاجة المستمرّة إليه من جهة، والمطالبة بإحداث إصلاحات داخلية فرضها السياق الجديد من بينها فرض تنحّى الشيخ عن القيادة، وفسح المجال لبروز وجوه جديدة تتنافس من أجل قيادة المرحلة، من جهة أخرى. وينمّ هذا المأزق الذى تواجهه الحركات التى تحوّل بعضها إلى أحزاب مارست الحكم فى السنوات الأخيرة عن التعارض بين مرجعيات متنوعة بعضها موصول إلى التجارب السياسية فى التاريخ الإسلامى بإرثها الاستبداديّ، والبعض الآخر يروم محاكاة تجارب الأحزاب الدينية المسيحية على وجه الخصوص التى أفادت من المناخ الديمقراطيّ، وقد عاينّا اعتماد قيادات حزب النهضة على أمثلة مستقاة من تاريخ الخلفاء «الراشدين» تارة، واستشهادهم بطريقة حكم بعض الأحزاب الكاثوليكية فى أوروبا طورا آخر، متّى فرض السياق استدعاء التجارب.
ويخبر الاعتماد على المرجعيّة الإسلامية عن التصوّرات التقليدية التى تجعل مؤسس الحركة يُتمثّل على أساس أنّه يحاكى النموذج التأسيسى فهو أقرب إلى جيل الصحابة والتابعين ويستمدّ هيبته و«قداسته» وتموقعه من هذا «العود إلى الوراء»، فلا غرابة أن يتحوّل «الغنوشى» إلى الشيخ «الحكيم» والعقل المدبّر والممثّل الأوحد للسلطة والمعرفة والخبرة.. وهذه الميزات تجعله فى الصدارة مراقبا ومتحكّما فى المشهد ومهندسا للنظام التراتبى الذى يخضع له الجميع. وكلّما تجذّر هذا التمثّل صار رئيس الحركة أكثر إيمانا بأنّه الوحيد القادر على إفادتها ولذلك ردّ «الغنوشي» على من قالوا له إنّ صدورهم ضاقت برئاسته: «يجدد للبعض دون حدّ إذا كان حكم المؤسسات على أدائه إيجابيا.. الأحزاب تستثمر فى قياداتها الناجحة فتدفعها إلى أعلى حتى تنتقل مقبوليتها من المستوى الحزبى إلى المستوى الوطنى وحتى أوسع من ذلك». وبما أنّ الرجل يتصوّر أنّه «الزعيم» فإنّه يستثنى نفسه من القواعد والمبادئ التى تفرضها الممارسة الديمقراطية، ويرى أنّه خارج التصنيف يقول: «أما الزعماء» فى الأحزاب الديمقراطية وليس الرؤساء، فهم الاستثناء من القاعدة، لقدرتهم على الصمود فى مواجهة عامل التهرئة، العنصر الفاعل فى التداول. الزعماء جلودهم خشنة! يتحملون الصدمات». ولأنّه من هذا الطراز الرفيع: «الزعيم الأكبر» الذى «لا يجود الزمان بمثله»، والشمس الساطعة، والبدر، وصاحب المقام العليّ والفذّ فإنّ الجماعة ملزمة بدفعه إلى قيادة البلاد لا مطالبته باحترام المبادئ والقواعد. إنّه القاعدة التى تستقى الجماعة وجودها منها.
بيد أنّ هذه التمثلات حول الذات الحاكمة والتصورات الخاصّة بالحكم والسلطة.. سرعان ما تصطدم بإكراهات الواقع. فاختيار الحزب الدخول فى تجربة بناء التحوّل الديمقراطى قد فرض عليه التزحزح عن التصوّرات التقليدية والقبول المبدئى بـ«تجريب» الممارسات الديمقراطية والاعتماد على آلياتها المختلفة والاستدلال بمفاهيم معاصرة: التداول، الحوكمة،.. وقد ترتّب عن خوض تجربة «الانفتاح» إحداث المؤسسات «المدنية» داخل الحزب، ولبس ربطة العنق، واستقطاب غير المحجبات.. خفوت «الجذب العاطفي» والتأثير الوجدانى ــ الوعظى الذى كان يستمتع به «الغنوشي» لحساب جذب من نوع مختلف يحقّقه آخرون من خلال إقناع الأنصار بالكفاءة والقدرة على التسيير، ومهارات الأداء.
اليوم تجد قيادات الحزب صعوبة فى التوفيق بين الماضي/ الحاضر، الموروث/ التجارب اليومية، العقدي/ السياسيّ، التكلّس/ التجديد، الثبات/ الديناميكية، العاطفة/ العقلنة،.. مثلها فى ذلك مثل حزب العدالة والتنمية وغيره من الأحزاب التى اضطرّت إلى أن تحسم أمورها بكلّ حزم. غير أنّ هناك من يتصدّى لهذا المسار التاريخى ويحوّل التجارب البشرية إلى تجارب خارقة للعادة. إنّ رفض «الغنوشي» محاولات غيره إعادة تشكيل وعى الجماعة، وحرصه على استبدال لقب «الشيخ» بـ«الزعيم» يعدّ فى تقديرنا، حجّة على رغبته فى صناعة صورة تفارق الزمان والمكان والمعايير السائدة.. إنّه الكائن الهركوليّ Hercule المفارق للقوانين الطبيعية الذى لا تؤثر فيه عوامل الشيخوخة وبإمكانه أن يتحّدى كلّ الصعاب. وما التلميح بعقم الحركة وعجزها عن «استنساخه» وإنتاج قيادات فكرية تتطابق مع مقامه إلاّ علامة على الإفراط فى تقدير الذات، وعلى هيمنة تصوّر مفاده أنّ «غيبته» ستتسبّب فى الهلاك المبين. أمّا تذرّع «الشيخ» بأزمة الكورونا والفقر والبطالة.. فهو محاولة للتقليل من شأن الموضوع وآلية للضبط والقهر علّه يغلق باب النقاش وينجح فى تحقيق حلم تجلّى فى استحضار مقام «نصر الله»: ولاية الفقيه السنيّ.