دروس من أزمة تقرير ممارسة أنشطة الأعمال
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 20 سبتمبر 2021 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
مرة أخرى تثير التقارير الصادرة عن مؤسسات تمويل دولية جدلا واسعا، بعد أن كشف النقاب عن ضغوط تعرض لها فريق العمل بتقرير ممارسة أنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولى عام 2018، لصالح إعادة تصنيف الصين ودول أخرى فى مراكز غير مستحقة. المثير للدهشة أن تلك الضغوط منسوبة إلى البلغارية «كريستالينا جورجيفا» الرئيسة التنفيذية للبنك الدولى وقت صدور التقرير، والتى تشغل حاليا منصب المدير التنفيذى لصندوق النقد الدولى، وتعد أول سيدة من الاقتصادات الناشئة تشغل هذا المنصب.
كنت قد ذكرت فى عدد من المقالات السابقة بالشروق محاذير الركون المفرط إلى هذا النوع من التقرير والتصنيفات الدولية، سواء ما صدر منها عن مؤسسات تمويل أو بنوك استثمار أو حتى مؤسسات غير هادفة للربح، وذلك على الرغم من أهميتها فى إرسال العديد من الإشارات للمستثمرين. بل إننى عدت إلى مقال لى عن تقرير ممارسة أنشطة الأعمال للعام 2018 (على وجه الخصوص) نشر بالشروق فى السابع من نوفمبر عام 2017، تناولت خلاله وضع مصر بالنظر إلى عدد من المؤشرات الفرعية، وتراجع مركزها عن تقرير العام السابق، وذيلت المقال بالفقرة التالية:
«التقارير والمؤشرات الدولية ليست بالضرورة متناهية الدقة، وهى بعد دالة فى عوامل كثيرة من ضمنها حسن التعاون مع الجهات المصدرة، والذكاء فى تلبية متطلباتهم... لكنها تظل مصدرا مهما لصناعة قرارات الاستثمار فى هذا العصر المزدحم بالبيانات التى يصاحبها (ولو بالمنطق الإحصائى المجرد) الكثير من التشويش».
ربما يكون التراجع الطفيف فى تصنيف مصر لهذا العام تحديدا شهادة جيدة على عدم دخولها ضمن الدول التى تحيزت لها «جورجيفا» وفريقها. لكن المؤكد أن لتلك الأزمة دلالات كثيرة يجب أن تستوقفنا ونحن نطالع تفاصيلها. فعلى الرغم من توقف إصدار التقرير للعام الحالى، والتبعات السلبية على سمعة المؤسستين الدوليتين اللتين ترأستهما «جورجيفا»، فضلا عن تراجع مصداقية مختلف الإصدارات والأبحاث وربما التوصيات الصادرة عن صندوق النقد والبنك الدوليين، فإن حقيقة عدم التهاون المؤسسى فى تناول هذا النوع من الاتهامات، حتى ما يطال منها كبار التنفيذيين ورءوس المؤسسات ذات الثقل الدولى المهيب، تمنح قبلة الحياة لاستدامة وعدالة تلك المنظومة الدولية على الرغم من كل سوءاتها.
***
قدرة المؤسسة على تصحيح أخطائها، وعدم اختطافها من قبل بعض القيادات المنحرفة هى فضيلة يفتقر إليها الكثير من مؤسسات دول العالم الثالث. تجد قيادات تستبد بصناعة القرارات وتفصيلها لتناسب أجندات خاصة، أو لتصفية حسابات مع الغرماء والخصوم. وهناك من يستخدم القوانين واللوائح أداة طيعة لإسباغ شرعية كاذبة على قراراته، خاصة إذا كان من بين اختصاصاته صياغة وتعديل تلك القواعد والقوانين بغير ضابط ولا رقيب.
من المحتمل أن تقود التحقيقات إلى كون «كريستالينا» قد أوعزت إلى بعض مرءوسيها من الباحثين أن يقوموا بإعادة النظر فى بعض معايير التصنيف، بما يحقق تقدما غير مستحق لبعض البلدان المتضمنة فى التقرير. كان هذا كافيا كى تنقلب الدنيا رأسا على عقب، وتبدأ التحقيقات التى يمكن أن تؤدى إلى عواقب وخيمة. تخيل معى عزيزى القارئ لو أن هذه السيدة بكل سلطتها وقوتها قد مارست ضغوطها على مجالس ولجان مستقلة تعمل تحت قيادتها، من أجل تحقيق أهداف خاصة! تخيل معى لو أنها حرمت بعض العاملين من حقوقهم القانونية، أو أنها فصلت لنفسها امتيازات مادية وعينية، وقامت بإقرارها من خلال تمريرها قسرا بتوقيعات مرءوسيها ومن تملك دفع رواتبهم ومستحقاتهم... بل تخيل معى لو أنها تعدل المعايير بكل بساطة وأريحية وبشكل دورى منتظم، من أجل استبعاد من تكره وتضمين من تحب فى قوائم ممارسة أنشطة مالية هامة أو مجالس إدارات شركات خاصة، كما يحدث فى بعض مؤسسات المال بدول نامية... تلك الممارسات الخطيرة كافية لعزل أى مخلوق وتحويله إلى المحاكمة العاجلة مهما بلغت سلطته.
الحيادية والمهنية والتجرد هى قوام نجاح واستقرار أية مؤسسة تمارس دورا تنظيميا أو رقابيا أو تمويليا أو حتى بحثيا. وإذا اهتزت الثقة فى حيادية أو مهنية هذا النوع من المؤسسات، فإنه لا يرجى منها أى تحقيق لوظائفها. تماما كما يُرد القاضى فى محكمته إن هو أفصح عن ميله أو رأيه أثناء مباشرة الدعوى. وكما يعاقب حكم المباراة إن هو أعلن انتماءه إلى فريق بعينه وانحرف بقراراته لصالح ذلك الفريق.
فى أزمة تقرير ممارسة أنشطة الأعمال، انتفضت لجنة الأخلاقيات بالبنك الدولى، وطلبت من مكتب قانونى خاص هو «ويلمرهيل» أن يعد تقريرا عن الواقعة. التقرير كشف عن قلق من تأثير محتمل للصين على البنك الدولى، وعن جنوح فى أداء «كريستالينا جورجيفا» لعملها حينذاك.
وكما هو متوقع فقد اعترضت «جورجيفا» على نتائج التقرير، وأخبرت المجلس التنفيذى لصندوق النقد الدولى بهذا. لكن مجموعة البنك الدولى قد اتخذت قرارها يوم الخميس الماضى الموافق 16 سبتمبر 2021 بإلغاء تقرير ممارسة أنشطة الأعمال للعام الحالى، على خلفية شبهات طالت مسئولين سابقين وحاليين بالبنك، ورد ذكرهم فى تقرير المكتب القانونى المكلف بالتحقيق.
***
فضيحة أخرى تسىء إلى مقام الرئاسة التنفيذية لصندوق النقد الدولى، تعيد إلى الأذهان فضيحة «دومينيك شتراوس» الأخلاقية عام 2011. وتضرب مؤسستى التمويل الدوليتين بصفعة واحدة هذه المرة. تلك الاعتبارات لم تمنع من مساءلة ومحاكمة كل تصرف شائن، فالحكم بأن المصلحة العامة تقتضى التستر على أى فساد هو فى ذاته أسوأ أنواع الانحراف، والغاية لا تبرر الوسيلة. رأينا فى أزمة الرهن العقارى عام 2008 أن مؤسسات التصنيف الائتمانى طالها اتهام (متكرر فى الأزمات المالية) بكونها ساعدت على منح أوراق مالية لا تساوى شيئا تصنيفا خادعا، اجتذب أموال المستثمرين الذين منحوا ثقتهم لتلك المؤسسات، حتى انهارت المنظومة بأكملها. لكن الحقائق الموثقة عشية الانهيار الكبير تؤكد أن أحدا من أصحاب القرار المؤسسى فى بنوك الاستثمار والهيئات الرقابية والبنك الفيدرالى الأمريكى لم يقترح إخفاء تقارير إدارة المخاطر أو التستر عليها لحماية السوق من الانهيار، لأن الخديعة عندئذ سوف توصم بالتعمد، والجريمة سوف تأخذ طابعا جنائيا لا يمكن أن يقبله أو يتهاون معه أحد.
مكافحة الفساد المؤسسى فى بلادنا يجب أن تتضمن تدريبا للقيادات والمرءوسين على صور الجنوح بالسلطة، والتأثير على صناعة القرار، واختطاف الأداء المؤسسى فى اتجاه شخصى، والتصرف فى المؤسسة وكأنها عزبة موروثة عن الأبوين! هذا النوع من الفساد المؤسسى عادة ما تزيد أخطاره وأضراره عن الاختلاس وتلقى الرشاوى والسرقات وغير ذلك من جرائم مباشرة يسهل تتبعها وإثباتها. نريد مؤسسات تملك جميع مقومات التطهير الذاتى، وتتبع فى ذلك أدلة عمل ولوائح لا يمكن تغييرها أو تفصيلها وفقا للأهواء والأمزجة. نريد آليات للتظلم ضد القرارات الإدارية لا تتحول إلى وسيلة للجباية المجحفة وجمع الأموال من المتظلمين وحرمانهم من حقوقهم الدستورية. نريد عدالة ناجزة سريعة رادعة لكل من ينحرف بسلطته ويدمر مصداقية الكرسى الذى يجلس عليه.
كاتب ومحلل اقتصادى