سكان عند مصب النيل.. تحديات وحلول
نبيل الهادي
آخر تحديث:
الثلاثاء 20 سبتمبر 2022 - 8:05 م
بتوقيت القاهرة
فى زياراتنا لبرج رشيد كنا ننزل أولا المدينة نزور متحفها وسوقها ونأكل فيها ونتمشى على كورنيشها ونركب المعديات التى يستخدمها الأهالى للتنقل بين ضفتى النهر، كما أولا نزلنا جنوبا حتى مسجد أبو مندور وفى إحدى الزيارات وصلنا لقناطر إدفينا. كما تحركنا شمالا وغربا حتى ساحل المتوسط ورأينا عن قرب الحمايات الخرسانية الضخمة التى وضعت لمكافحة نحر الشاطئ.
فى النقاش على أرض القرية نتساءل كثيرا ليس فقط عما نراه ولكن عن دلالاته وما يختفى خلفه. ونسأل ونستمع لسكان القرية وزوارها وإن بحذر، فقد علمنا أن بعض سكانها ينظرون لنا بريبة. فى مرة سمعت أحدهم يصف تعامل الدارسين معهم وكأنهم «فئران تجارب» وكم كان هذا مؤلما. لا نريد أن نعطى للسكان أملا زائفا أو غير دقيق أو نغريهم بأحلامنا لأننا ندرك صعوبة التحديات.
• • •
إضافة البيانات والمعلومات إلى تلك الصور والأصوات هى ما قد يعدنا بفهم أفضل وأوضح لما يحدث على الأرض ولكن مصدر البيانات الرئيسى بالنسبة لنا كان جهاز التعبئة العامة، وتشمل دراسات جهاز التعبئة العامة والإحصاء بيانات وتقارير هامة للغاية مثل تقرير «حث الدخل والإنفاق 2017 /2018» والذى حمل فى طياته بيانات هامة عن معدل ونسب الفقر خاصة فى الريف. وما كان محبطا لنا أنه بالرغم من أهمية التقرير إلا أننا لم نتمكن من استخدام نتائجه لقراءة الواقع الاجتماعى التفصيلى للقرية التى ندرسها.
افتقدنا كثيرا الإحصاء الزراعى لأننا كنا بحاجة للبيانات التى يوفرها لفهم أفضل للزراعة فى المنطقة، ونتمنى أن تثمر الجهود التى تدعمها منظمة الأغذية والزراعة لتحديث وتطوير هذا الإحصاء لما له من أهمية كبرى. كنا نتطلع أيضا للحصول على البيانات التى تمكننا من فهم مشكلات المياه بصورة أفضل سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة وللأسف لم نستطع الحصول على مثل تلك المعلومات، التى نعتقد أنها ضرورية للغاية لتحديد حجم المشكلات وأولويات التعامل معها. كما أنها قد توفر إشارات لارتباطات معينة تستوجب التنبه إليها.
وأضاف لنا العمل الهام الذى قامت به وزارة التخطيط فى نهاية السنة الماضية عن توطين أهداف التنمية المستدامة بعض الإضاءات الهامة وإن لم تكن شاملة حيث لم يتناول التقرير الذى شمل محافظة البحيرة العديد من الأهداف الهامة، بالإضافة إلى عدم وجود قياسات للعديد من الأهداف والغايات الفرعية ربما لنقص البيانات الخاصة بذلك كما أشار ممثل وزارة التخطيط فى إحدى المؤتمرات فى نهاية العام الماضى.
• • •
فى ربيع ٢٠١٦ كان عنوان دراستنا الأولى لبرج رشيد «مواجهة تهديدات التغير المناخى» وكنا وما زلنا مهتمين بدراسة الكيفية التى يمكن من خلالها توفير حياة مستدامة ومقبولة لسكان المنطقة. وبدأنا مع تقدم سنين الدراسة نتوسع فى فهم ليس فقط الأبعاد المركبة والتحديات التى يحملها التعامل مع التغير المناخى ولكن أيضا فى التعرف على الارتباطات الوثيقة للتغير المناخى مع تهديدات أخرى ربما تكون أكبر ولكننا لا نتناولها بالقدر الذى تستحقه وخاصة قضية «التنوع الحيوى»، ومكننا ذلك من طرح أسئلة أفضل وأكثر تطورا عن حاضر ومستقبل القرية. كما أدركنا أيضا أن التغير المناخى لا يصلح كمدخل فقط لتلك القرى المهددة بالغرق والواقعة فى ساحل الدلتا ولكنه أيضا يصلح لتناول العديد من قرى الريف المصرى على تنوع جغرافيتها.
ما هو مهم فى اتخاذ التغير المناخى كمدخل وإطار لدراسة الريف المصرى هو أنه يساعدنا على الفهم المركب للواقع والتعامل معه ككائن حى أجزاؤه مترابطة بصورة لا يمكن تبسيطها أو تفكيكها أو تلخيصها فى مجموعة مكونات سواء كانت أرضا نزرعها أو بيوتا نسكنها أو طرقا نسير عليها. وهذا البناء الحى المترابط والمعقد والذى هو جزء من منظومة حية ذات مستويات متعددة ومتصلة بالمنظومة الكبيرة لكوكب الأرض يتطلب تعاملا ودراسات ومقترحات تتعامل بحساسية مع ذلك البناء الحى لكى تتمكن من استعادة قدرتها على التجدد وتكون قادرة على دعم من يعيش فى ظلها.
ما رأيناه أيضا أن هذا التحدى الكبير يحمل فرصا لفهم أفضل لمشاكلنا ولإيجاد وسائل للحياة المزدهرة للناس فى ظل إمكانات وموارد محدودة وبصورة مستدامة. وهذا الوضع المركب الذى يتطلب ابتكارات عديدة ولكنه أولا يتطلب منا احتراما عميقا وتقديرا للبيئة الطبيعية والتزاما بالحفاظ عليها. كما يتطلب اعتمادا على العلم وتشجيعا للعمل الجماعى العلمى. ويتطلب فى خطواته الأولى والمستمرة احتراما للمجتمع ومعارفه التقليدية وتاريخه التى يكمن فى بعضها حلولا لمستقبلنا. وربما إذا استطعنا فعل ذلك أن نتمكن من استعادة قدرتنا على المساهمة فى بناء الحضارة الإنسانية كما كنا منذ وقت غير قريب.
• • •
وما زلنا نتطلع لإشراك باحثين وباحثات فى دراسة الاقتصاد البيئى لكى نتمكن من القيام بدراسات يتضح جدواها عند أخذ التأثيرات على الطبيعة وعناصرها. وتوضح الدراسة التى قام بها البنك الدولى فى نهاية 2019 مدى أهمية الانشغال بالاقتصاد البيئى، حيث أظهرت بوضوح الخسارة الكبيرة التى نتحملها نتيجة لتلوث المياه والهواء فى القاهرة والتى قدرتها بما يعادل 47 مليار دولار سنويا. إدخال العوائد البيئية سلبا وإيجابا فى اقتصاديات المشروع تسمى أيضا بالتكلفة الحقيقية، وبهذه الطريق سيتم تشجيع تلك النوعية من المشروعات التى تعتمد على استخدام الوسائل البيئية منخفضة التكلفة ومرتفعة العائد البيئى. وعندما نتصور أننا سنحتاج لما بين خمس لعشر مشروعات أولية تجريبية تعتمد كلها على التقنيات البيئية وذلك للبدء فى عملية تحول حقيقى للقرية يكون أكثر استدامة، لإدراكنا أهمية إدخال الاقتصاد البيئى فى تخطيطنا لاقتصاد متجدد فى الريف المصرى.
ما هو مهم للغاية فى تناول الاقتصاد البيئى هو قدرته على تحويل النقاش حول القضايا البيئية إلى وضع أكثر وضوحا للجميع يظهر الخسائر أو الفوائد التى عادة ما تهمل فى حساب التكلفة والعائد فى المشروعات بصورة جدية. وهو أيضا يساعد فى التأكيد على أن الفكرة الجوهرية فى الاقتصاد وهى فكرة «القيمة» ليست مادية فقط ولكنها فى جوهر الوجود الإنسانى والطبيعة الذى لا يمكن تقدير قيمة عناصره لأن قيمتها هى فى ذاتها ووجودها وليست فقط فى المنفعة التى تعود علينا منها.
كما نفعل فى المناطق الأخرى التى نقوم بدراستها فنحن حريصون على التحدث مع السكان المحليين وفى أضيق الحدود، لأننا لا نستطيع أن نعدهم بشيء ليس فى يدنا كما أننا لا نريد لهم أن يتصوروا ما نقوم به على محمل سلبى. ولأننا نزور المنطقة بانتظام عبر السنوات السبع الماضية فأصبح لنا فيها أصدقاء نطلب نصيحتهم عندما نكون فى حاجة لها أو فقط نتبادل معهم أحاديث ودية تقرب المكان منا وتقربنا من المكان.