وتتساقط الأوراق

حسام عبدالله
حسام عبدالله

آخر تحديث: الثلاثاء 20 أكتوبر 2009 - 10:08 ص بتوقيت القاهرة

 سقطت ورقة أخرى من شجرة اليسار المورقة والتى كنت أظنها دائمة الاخضرار.

خسر الصديق والرفيق والمفكر المناضل الدكتور محمد السيد سعيد معركته الأخيرة مع السرطان.. ولا يطاوعنى لسانى على أن أقول مات، فأمثاله لا يموتون.

عرفت «محمد» من خلال لقاءات واجتماعات مختلفة أثناء الحركة الطلابية فى سبعينيات القرن الماضى، واستمرت علاقتنا عن بعد بسبب سفرى إلى الخارج منذ منتصف السبعينيات من خلال متابعتى لمقالاته المتميزة، وقد جمعه مع أبى الدكتور إبراهيم سعدالدين رحمه الله حبهما للفكر والثقافة والكتابة مما جعلهما أصدقاء رغم فارق السن بينهما. كان محمد السيد سعيد وأحمد عبدالله رزة وآخرون ضمن مجموعة صغيرة من جيل السبعينيات استمرت ليس فقط كمناضلين بل أيضا كمفكرين تشغلهم قضايا الوطن وما آلت إليه أحواله.

تقابلنا لأول مرة بعد سنوات طويلة من الفراق فى جنازة الأستاذ لطفى الخولى.

ذكرنى بنفسه وأعطانى بطاقته وتعاهدنا على التواصل، لكننى فقدت البطاقة وشغلتنا دوامة الحياة إلى أن جمعتنا جنازة أخرى لأحد أعلام اليسار. ثم كان لنا لقاء حميم فى منزل صديقنا المشترك الدكتور محمد منير مجاهد، حيث جمعنا يومها لقاء مع زملاء الحركة الطلابية: سمير غطاس وأحمد بهاء شعبان وأهداف سويف وعماد عطية وآخرون من هذا الجيل. يومها حكى لنا محمد كيف وقف ونقد وتحدى الرئيس مبارك فى لقائه مع الكتاب فى معرض الكتاب يناير 2005. كنت أحس به فى ذروة شجاعته بل أيضا وخوفه، ولعل أكثر ما علق فى ذهنه وذهنى عقب أن قص علينا أخبار هذا اللقاء هو ما قاله الرئيس مبارك وهو خارج من الاجتماع، حيث قال له: «على فكرة أنا بفهم اكتر منك!»

تكررت اللقاءات مع إصدار جريدة البديل حيث كنت أحد المساهمين المتواضعين فى تأسيس شركة التقدم المصدرة لها، وفى كل لقاء كان محمد يطلب منى المشاركة بالكتابة ولكن خوفى المزمن من الكتابة منعنى من تحقيق رغبته.

كان لقاءنا الأخير أثناء المؤتمر الوطنى الأول لمناهضة التمييز الدينى الذى عقد فى أبريل 2008 والذى حضره وشارك فيه ــ على الرغم من مرضه ــ بورقة ممتازة كان عنوانها «التمييز الرمزى بين بناء الأمم وتحطيمها»، ووجه جريدة البديل لتكون الصوت المعبر والناقل لهذا المؤتمر وأعماله فى وجه حملة ظالمة لتشويهه والتشويش عليه.

على هامش المؤتمر صارحنى محمد بمرضه وطلب منى أن استكشف إمكانية علاجه فى إنجلترا حيث استقر بى المقام والعمل، وهو ما حاولته بالفعل.

تراسلنا وحاولت كثيرا أن أرتب له لقاءات مع بعض المتخصصين فى بريطانيا ولكنه فضل الذهاب إلى فرنسا، حيث نجحت جهود العديد من الأصدقاء فى مصر وفرنسا فى تشجيع الحكومة الفرنسية على أن تتولى علاجه على نفقتها، وكان علاجه بأحدث الوسائل الطبية المعروفة، ولكن تشاء الأقدار فى النهاية أن يفارقنا هذا المناضل بعض صراع طويل مع المرض.. صراع لم يفقده يوما البصر أو البصيرة بأحوال وطننا الذى يسير إلى الهاوية. بقى محمد السيد سعيد النذير والنفير اليسارى الليبرالى داعيا لكل قيم العدالة الاجتماعية، ومتصديا لمفاهيم الحداثة والدولة المدنية، ومدافعا صلبا عن حقوق الإنسان، ومعبرا عن هذا النفر القليل من الذين يعانون مما آل إليه الوطن والأمة من جهل وجهالة أوصلونا إلى هذه الجاهلية الحديثة التى نعيشها اليوم.

وحيث إن الشىء بالشىء يذكر فلا يسعنى هنا إلا أن أبكى حالنا جميعا، فقد أصبحنا على لقاء شبه شهرى إن لم يكن أسبوعيا فى جنازة من جنازات البقية الباقية منا ممن أحبوا وطنا غير الذى نحياه اليوم. فالبارحة ودعنا رضا رشوان، وعلى الديب، وفى بداية هذا العام رحل عنا كل من الأستاذ محمود أمين العالم، والدكتور عبدالعظيم أنيس، وفى العام الماضى ودعنا كوكبة مضيئة من المفكرين كان منهم أبى الدكتور إبراهيم سعد الدين، ومن قبله الدكتور إسماعيل صبرى عبد الله وقبلهما الدكتور أحمد عبدالله رزة، وقديس اليسار ومحامى الشعب أستاذنا جميعا الأستاذ أحمد نبيل الهلالى والقائمة لا تنتهى.

أيها الأصدقاء والأحبة الباقون معى على قيد الحياة أنعى لكم ولنفسى من تركونا، ومن سيتركوننا ــ إن آجلا أو عاجلا ــ نحن نموت كل يوم حتى وإن كان البعض منا مازال يستنشق الهواء أو يشرب الماء، فالذى يموت فعلا هو وطنا أحببناه ومستقبلا راعيناه ودعونا إليه ومازلنا.. ولكن الأوراق تتساقط وهى قليلة ولا يبدو لى فى الأفق بصيص من الأمل فى مواجهة هذا الطوفان من تحالف الفساد والجهالة.

فلنستمر فى مسيرتنا السيزيفية علنى أكون مخطئا أو متشائما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved