وداعا للحرس الجامعى.. مرحبًا بالحرس المدرسى
سامح فوزي
آخر تحديث:
السبت 20 نوفمبر 2010 - 10:58 ص
بتوقيت القاهرة
العنف فى المدارس ليس ظاهرة حديثة، ولم يرتبط بتولى وزير التعليم الحالى منصبه، لكن الجديد فى الأمر هو نوعية العنف، شكله، مظهره، أطرافه، ومدى استنفار المجتمع لحدوثه.
وهو ما يكشف عن تحول المدرسة من «مؤسسة مجتمعية» تربى أعضاءها على ثقافة المواطنة إلى «كيان استبدادى» يتفشى فيه العنف بجميع صوره. المشكلة ليست فقط فى الطالب والمعلم والإدارة المدرسية، ولكن فى وجود تصور حكومى قاصر للعملية التعليمية بوصفها «حشوا للأذهان»، وليس «تربية للعقول».
الفارق بينهما هو بالضبط الاختلاف بين ماكينة تنسخ كيانات متشابهة ممسوخة، وفضاء يربى على التفكير النقدى، والوعى المجتمعى، والمشيئة الخاصة. وهل يمكن أن نرجو واقعا مختلفا للمدرسة بينما يعيش المجتمع تعاسة على جميع المستويات؟
(1)
رصد تقرير صادر عن «المركز المصرى لحقوق الإنسان» ما نشرته الصحافة من حوادث العنف المدرسى خلال شهر أكتوبر الماضى. اعتداء الطلاب على بعضهم باستخدام أسلحة بيضاء، واعتداء مدرسين على الطلاب، واعتداء أولياء الأمور على المدرسين وزملاء أبنائهم. أحداث متكررة يظهر فيها ألوان من العنف اللفظى، البدنى أدى إلى فقء العين وكسر الذراع، والرغبة الواضحة فى تدمير منشآت تعليمية، هذا فضلا عن أعمال البلطجة، والتحرش بالطالبات، والمشاجرات الممتدة فى الشوارع المحيطة بالمدارس. وقد توقفت أمام حادثتين مهمتين ليس فقط للتدليل على تفشى العنف المدرسى، ولكن للكشف عن تراجع مستوى ثقافة حقوق الإنسان رغم كثرة عدد الجمعيات والمنظمات الحقوقية فى المجتمع المصرى، ورغم الاهتمام الشكلى على مستوى أجهزة الدولة المختلفة بتضمين بعض البرامج الدراسية والتدريبية عن حقوق الإنسان.
الحادثة الأولى، لم تنتشر فى وسائل الإعلام إلا على نطاق ضيق، مفادها أن مدير جمعية أهلية فى مركز ملوى بمحافظة المنيا تسمى «مركز العدل والتنمية لحقوق الإنسان»، نشر تقريرا عن مخالفات المدرسة التى تدرس بها بناته الثلاث، من تحرش جنسى، وتكدس فى الفصول، واللجوء إلى أساليب غير آدمية فى العقاب. فما كان من مدير المدرسة سوى التضييق على بناته، ولما ذهب للمدرسة للشكوى جرى احتجازه فى غرفة، ونال قسطا وفيرا من الضرب حتى غاب عن الوعى، وظل الحال كذلك إلى أن استطاعت قوات الأمن تحريره.
أما الحادثة الثانية، فقد نالت من الشهرة ما يكفى فى وسائل الإعلام، هى التحرش الجنسى بتلميذ فى إحدى مدارس مصر الجديدة. وقد حاولت الإدارة المدرسية فى البداية التواطؤ على الواقعة، ومحو آثارها إلا أن الخبر انتشر، وخرج خارج أسوار المدرسة.
(2)
العنف فى المدارس ظاهرة قديمة جديدة. نعرفه جيدا، ولم يغب عن متابعات وسائل الإعلام طيلة السنوات الأخيرة على وجه التحديد. وليس معقولا، ولا يوجد فى أى دولة متحضرة بالمناسبة، أن تتولى الشرطة حراسة المدارس، وتأمين الطلاب والطالبات، وحماية المدرسين من غارات أولياء الأمور. وفى الوقت الذى يسود فيه المجتمع انتشاء واضح بحكم المحكمة الإدارية العليا بإلغاء الحرس الجامعى التابع لوزارة الداخلية، يبدو أن المدرسة باتت بحاجة إلى «حرس مدرسى» بعد أن أدى العنف بها إلى سقوط ضحايا، وانتهاك جنسى، واستخدام أسلحة بيضاء، وممارسات فاضحة للبلطجة. لو طرحت سؤالا على أولياء الأمور والمدرسين:
«هل تريدون حرسا مدرسيا»، أتوقع أن تكون الإجابة فى الغالب «نعم»، لأن المعنيين بالعملية التعليمية لم يعد يعنيهم على ما يبدو مستوى التعليم، لأن علامات التردى واضحة فيه، والدروس الخصوصية باتت قدرا يصعب الفكاك منه، كل ما يشغلهم هو السلامة الجسدية لأبنائهم، لأنه لم يعد متصورا أن يذهب طفل للمدرسة فيلقى حتفه، أو يفقد إحدى عينيه، أو تكسر له ذراع أو قدم، أو يتعرض لانتهاك جنسى. هل من الممكن أن نقول وداعا للحرس الجامعى ومرحبا بالحرس المدرسى؟ هل يمكن أن يحدث ذلك؟ أتصور أن كثرة حالات العنف قد تدفع المجتمع للمطالبة بذلك.
(3)
الإشكالية الحقيقية أن المدرسة لم تعد مؤسسة مجتمعية تعنى بتكوين أعضائها. والتكوين يختلف عن التلقين. الأول يبنى الشخصية، والثانى يمسخها، وبين شيوع المسخ وغياب البناء تستمر حالة التخلف الاجتماعى السائدة. فى الأنظمة التعليمية الحديثة المدرسة هى مؤسسة تنبع من المجتمع، تنفتح عليه، وتتواصل معه، وأعضاؤها من المعلمين والطلاب يشاركون فى أنشطة المجتمع المدنى، ويسعون للارتقاء بالبيئة المحيطة، وينخرطون فى أشكال من التعلم الذاتى من خلال خبرة الحوار الإنسانى، وثقافة التطوع، وحب الخدمة العامة.
من هنا يحب الطلاب المدرسة، ويشعرون بشغف الذهاب إليها. فهى محل لنشاطهم، وليست سجنا لطاقاتهم. أما فى المجتمع المصرى فإن المدرسة مؤسسة بيروقراطية جامدة معزولة عن المجتمع، أسوارها سياج عازل أمام انفتاح الطلاب على البيئة الخارجية، مناهج مكدسة بحشو زائد لا معنى له، وعلاقة غير سوية بين الطلاب والمعلم، وإدارة مدرسية عقيمة لا تعرف الحوار، وتمنعها وزارة التعليم من الانفتاح على المجتمع المدنى بجميع صوره. الخوف هو الهاجس الأساسى الذى يغلف علاقتها بالسياق الاجتماعى الذى يحيط بها. ماذا ننتظر بعد ذلك؟ طلاب وطالبات يصرفون طاقاتهم فى المشاجرات، يكرهون المدرسة، ولا يتورعون فى الاعتداء عليها إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. صارت المدرسة عنوانا لمجتمع غير ديمقراطى، يغيب عنه حكم القانون الرادع، ويسوده إحباط نفسى، وشحن طائفى، واحتقان اقتصادى، وقلق سياسى، يتفشى فيه العنف بجميع صوره، يندلع لأقل الأسباب وأتفهها، ويطول كل أفراد المجتمع.
لا نلوم الطلاب والطالبات على مخزون العنف المتفجر فيهم، ولكن نلوم المجتمع الذى آل بهم إلى هذا الوضع، وحرمهم من القدرة على تطوير الذات، وإطلاق المواهب والطاقات. ماذا ننتظر من طلاب وطالبات يقبعون فى مؤسسة تعليمية تعزلهم عن واقعهم، وتبث فيهم روح السلبية، وتنكر عليهم الإبداع، وتحولهم إلى كائنات ممسوخة بلا وعى نقدى، أو معرفة إنسانية؟ قد يكون الإبداع بالنسبة لهم فى تصوير انتهاك جنسى بالهاتف المحمول، أو التفنن فى استخدام سلاح أبيض، أو التخطيط لعمليات قتالية مصغرة..
وسيظل السؤال ملحا: هل يمكن تحقيق مدرسة ديمقراطية بلا مجتمع ديمقراطى، أم أن المؤسسة التعليمية هى أداة تكريس المجتمع غير الديمقراطى، أم هى مجرد نتيجة له، أم هى كل ذلك؟