ليس بالقمع نقتل الرأي
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
الأحد 20 ديسمبر 2009 - 4:27 م
بتوقيت القاهرة
يبدو أننا لا نتعلم بسهولة أولا نتعلم على الإطلاق من خبراتنا السابقة. قرأت عن خبرى سحب بحث للدكتور محمد عمارة ومنع الدكتور نصر حامد أبوزيد من المشاركة فى عدة أنشطة ثقافية فى الكويت. وقد أزعجتنى هذه الروح الجافة مع أصحاب الفكر والرأى. إن مثل هؤلاء هم الذين يحركون المياه الراكدة فى مجتمعنا كما وصف سقراط نفسه، وهو أمام محاكميه بتهمة إفساد عقول الشباب بأنه ذبابة وقفت على رأس حصان ضخم، يقصد أثينا، كى تستجيب له بالحركة والحيوية والتفكير والتأمل.
إن المجتمع الراكد فى أفكاره كالماء الراكد فى حركته تضيع منه حيوية الفكر والفكر المقابل وما بينهما من جدل يولد أفكارا جديدة ومبتكرة؛ فمعظم مشكلات المجتمع الحديث ليست لها حلول بديهية أو فطرية يستنتجها شخص بذاته وهو فى عزلة عن الآخرين وإنما هى مشاكل معقدة تستدعى حلولا جدلية مدروسة يدلى فيها كل صاحب رأى برأيه، ويعبر فيها كل صاحب مصلحة عن مصلحته.
وأنا أعلم أن هذا الموضوع يثير حساسيات كثيرة لاسيما عند المؤسسات الدينية. لكننى لست واثقا من أن القرارات، التى يتخذها القائمون على هذه المؤسسات بالمصادرة والمنع والسحب تفضى إلى النتائج المرغوبة. حيث يبدو لى أن مصادرة الكتب بهدف منع تداولها بين الناس تبدو منطوية على عدم اتساق بين المقدمات والنتائج.
فمن قواعد الاستدلال المنطقى السليم أن نحلل الموقف على أساس أن نرى مدى اتساق الهدف مع الإجراءات ثم مع النتائج. فالأصل أن الأزهر يريد أن يحافظ على «الإسلام» من العابثين به حتى لا ينتشر بين الناس مثل هذا النوع من الفكر «الضال»، كما أن الكنيسة تسير فى نفس الاتجاه، والإجراء هو التوصية بالمنع والمصادرة، والنتيجة هى المنع الرسمى والانتشار غير الرسمى لأن الأفكار ليست مادة لها أهداب وحواف يمكن الإمساك بها ونقلها أو القضاء عليها. بل حتى إن الفيزيائيين يقولون إن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، وإنما تتحول من صورة إلى أخرى. وهكذا الأفكار والآراء فإنها لا تفنى بالمصادرة وإنما عادة ما تأخذ صورا أخرى قد تكون أكثر مِنعة. وقد قالها عزيز أباظة فى إحدى مسرحياته الشعرية: ليس بالقمع تقتل الرأى إن القمع يليه قوة وانتشارا.
ولدى ما يؤيد صحة كلام عزيز أباظة من العلم، ومن الفلسفة، ومن الدين. ولنبدأ بالعلم، وهو الذى يعرفه المناطقة، أى دارسو المنطق، على أنه منهج فى التفكير يربط بين العلل (أى الأسباب) المباشرة ونتائجها. فما هى النتائج المباشرة المترتبة على منع كتاب أو مصادرة رواية فى مجتمعاتنا؟ من خبرة كتابات ممنوعة أخرى فى مصر أو فى غيرها يتبين أن المصادرة تؤدى إلى ثلاث نتائج متلازمة. أولا ضجة إعلامية تحول الكاتب إلى بطل فى عين البعض وشيطان فى عين البعض الآخر. وهناك ثانيا من هم مستعدون لأن يقوموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ليس بالقلب أو باللسان ولكن باليد فيوضع الكاتب على قائمة المرتدين، وثالثا يزداد الكتاب مبيعا سواء فى الداخل أو الخارج ونزيد نحن فى تشويه صورتنا باعتبارنا مجتمعا همجيا لا يقبل الخلاف فى الرأى. وحتى أكون أقل تجريدا، فلنعد لخبرة رواية آيات شيطانية لسلمان رشدى، تلك الرواية التى طبعت منها إحدى دور النشر البريطانية خمسين ألف نسخة ومن خبرة سلمان رشدى مع رواياته الثلاث السابقة كان هذا العدد من النسخ يتطلب أربعة أعوام حتى ينفد. إلى أن قرر الإمام الخومينى أن «يدافع عن الإسلام» فأصدر فتواه الشهيرة، التى بموجبها أصبح سلمان رشدى مطلوبا للقتل، وأصبح كتابه واحدا من أكثر الكتب مبيعا فى العالم، ووصلت مبيعاته فى عام 1990، أى بعد عام من الفتوى الشهيرة للإمام الخومينى إلى 4 ملايين نسخة بثمانى لغات. أى بدلا من أن الكتاب كان يقرأ بمعدل خمسين ألف نسخة فى الأربع سنوات أصبح يقرأ بمعدل 4 ملايين نسخة فى العام الواحد، ولم تزل الرواية تباع على نطاق واسع حتى الآن، ويا لها من خدمة للإسلام، يشكر سلمان رشدى الإمام الخمينى عليها فى محاضراته العامة، كما سمعت منه شخصيا حين زار الجامعة التى أعمل بها فى الخارج.
والأمر لم يكن بعيدا عن أولاد حارتنا ووليمة لأعشاب البحر وغيرها فى السياق المحلى المصرى. وأتلقى على الإيميل الخاص بى من بعض المعارف، الذين غلبت عندهم العاطفة الدينية على التفكير المنطقى نسخا من آيات محرفة أو شتائم فى الرسول الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، والصحابة العظام ومعها تحذير بألا تزوروا هذه المواقع، التى تنشر مثل هذه الشتائم وتكون المفاجأة أن تنتشر هذه المواقع أكثر بين المسلمين. وقد شبهتها لبعض الأصدقاء بأن تجد نسخة من قرآن محرف فتقوم بتصويرها عشرات النسخ لتحذر المسلمين منها وكأنك بذلك تضر بالإسلام من حيث قصدت أن تخدمه، ويا له من دين لو كان له أتباع عقلاء.
هذا كان حديث العلم الذى يربط بين الفعل والنتيجة على نحو مباشر. أما حديث الفلسفة، فأنا أعود فيه إلى جون ستيورت ميل الذى اعتبره أعظم الفلاسفة الغربيين بيقين وهى منزلة لا ينازعه فيها، فى تقديرى المتواضع، سوى جيمس ماديسون فيلسوف الدستور الأمريكى الشهير. ماذا يقول جون ستيورت ميل؟ بصفته أبا للفكر الليبرالى فإنه اكتشف أن الديكتاتورية ليست قاصرة على تسلط الحاكم على المجتمع، وإنما من تسلط بعض المتنفذين فى المجتمع على بعض أفراد المجتمع الآخرين، سواء جاء نفوذ المتسلطين من العدد بحكم الأغلبية أو لامتلاكهم واحدة من مصادر القوة اللينة مثل الحديث باسم الدين أو القيم أو التقاليد. إذن إذا كانت الديمقراطية هى علاج التسلط الحكومى، فإن الليبرالية هى علاج التسلط المجتمعى. وعلى هذا فإن ميل يرى أن المجتمع لا بد أن يتسامح مع الأفكار غير المرغوبة لأنها تخدم المجتمع من وجوه عدة: فهى قد تكون أفكارا صحيحة حتى وإن لم تكن مقبولة شعبيا، ألم نكن نعتبر الديمقراطية كفرا وأن التعدد الحزبى نوع من التنازع والتفرق المنهى عنه؟
كما أن هذه الأفكار قد لا تكون صحيحة تماما وإنما فيها بعض الصحة وبعض الخطأ، وعلى هذا، فالأولى بنا أن نتدارسها جيدا حتى نستبين مواضع الخطأ ومواضع الصواب، كما أنها قد تكون خاطئة تماما لكنها تستثير فينا الرغبة فى التثبت والتأمل، على نحو ما وصف سقراط نفسه بأنه ذبابة تستثير الفكر وبعد أن تؤدى الغرض منها فإنها تذبل وتختفى.
ولى أخيرا حجتان من الدين فى أن القمع ليس الوسيلة الأسلم لمواجهة مثل هذه الكتابات التى تبدو للبعض هجوما حادا على الدين. والحجة الأولى أن الله سبحانه قد نشر حجة أعدائه ضده ثم فندها على نحو ما جاء فى القرآن بل بنقل موضوعى كأعظم ما تكون الأمانة فى النقل: «قالت اليهود يد الله مغلولة» «وقالت اليهود عزير ابن الله»، «ولقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء» ثم رد عليهم سبحانه مقارعا الحجة بالحجة. وفى آية أخرى أمر الله رسوله إذا رأى الذين يخوضون فى آيات الله بغير علم أن يعرض عنهم «حتى يخوضوا فى حديث غيره»، والغريب أن هذا التوجيه القرآنى يتشابه جدا مع مقولة تنسب إلى مفكر انجليزى اسمه جون ميلتون كان يعيش فى القرن السابع عشر فى ظل الحرب الأهلية البريطانية، ومع ذلك ظل يدافع عن فكرة «سوق الأفكار»، والتى لا يمكن أن تمنع أحدا من الدخول فيها ما دام نطق بلسانه لأن الأفكار الشريرة، على حد قوله، «تتراجع وتندثر حينما لا تجد من يدعمها ولا من يحاربها» وكأن محاربة الفكرة والرأى، بمعنى المنع والمصادرة، تثير حولها جدلا أكبر وتجعل لها أنصارا أكثر.
والحجة الثانية تأتى من رسولنا الكريم حينما أراد أن يحافظ على سمعة الدين وعلى مصداقيته بأن رفض نصيحة عمر بن الخطاب بأن يقتل عبدالله بن أبى بن سلول الذى كاد يحدث فتنة بين المسلمين بعد غزوة بنى المصطلق، فقال والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز (يقصد الأنصار) منها الأذل (يقصد المهاجرين). ولكن الرسول الكريم رفض قتله قائلا: «حتى لا يشيع فى الناس أن محمدا يقتل أصحابه» فيعرف العرب عن الإسلام من أعدائه وليس من أتباعه؛ ففضل عليه السلام أن يحتمل أذى المنافق عن أن يخسر الدين مصداقيته. ويقول الأستاذ العقاد، وهو عظيم مصرى لا يقل فى قيمته عن ميل وماديسون، معلقا: هل نفهم من موقف الرسول الكريم أنه يقبل الباطل الذى يأباه عمر؟ الإجابة بالنفى القاطع. لكن عمر تسيطر عليه روح الجندى المحارب، التى أحسبها تسيطر على فكر الكثيرين من الذين يهرعون للمصادرة والمنع، فالفرق بين الرسول محمد وخليفته عمر، كما يشير العقاد، كالفارق بين الإنسان العظيم وبين الرجل العظيم. فالإنسان، محمد، يعرف ضروبا من الباطل، ويعرف ضروبا من الإنكار لأنه يعرف ما فى النفس الإنسانية من عوج وتعريج وتتابعها بين قوة وضعف وخير وشر وصحة ومرض يجعل المنع بل والسيف واحدا من وجوه الإنكار وليس الوجه الوحيد. إن روح النقاش والجدل، وليس المصادرة والقمع، هى ما نريده فى هذه المرحلة من تطورنا السياسى والفكرى.
أقول بكل تواضع اتركوا كل ذى رأى يعبر عن رأيه فلن يضرَ الدينَ، أىّ دينٍ، أحدٌ برأى، ولو كان القمع كافيا لما ظهر الانقسام بين السنة والشيعة ولما حدثت فتنة خلق القرآن؛ فلندع آفة تسجيل المواقف ولنبحث عن حلول عملية للمشكلات.