دعم القرار والحوكمة الرشيدة


أحمد زايد

آخر تحديث: الإثنين 20 ديسمبر 2010 - 1:51 م بتوقيت القاهرة

 يحتفل مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصرى هذه الأيام بمرور خمسة وعشرين عاما على إنشائه، والاحتفالية ـ هنا أو فى أى مكان آخر ـ هى مجال للاغتباط بالفعل بقدر ما هى مجال لتأمله واستخلاص الدروس منه. وأحسب أن القائمين عليه ـ وعلى رأسهم الأكاديمى الفذ الدكتور ماجد عثمان ـ على وعى بهذا الهدف فى إقدامهم على هذه الاحتفالية.

وإذا كان الاغتباط بهذا الحدث هو أمر مشروع لكل من شارك فيه، فإن المشتغلين بالعلوم الاجتماعية هم أشد الناس سعادة وغبطة.

لقد وسع المركز من نشاطه فى السنوات الأخيرة ليغطى مجالات ومعلوماتية عديدة، لا تقتصر على تجميع المعلومات وعرضها، بل تتجه إلى إجراء البحوث العلمية والرصد العلمى الدقيق، ولقد أدى ذلك إلى فتح آفاق بحثية فى مجال التنمية والقيم وتنمية عادات القراءة واكتشاف الموهوبين وتنمية الانتماء والخطاب الدينى والعنف والفقر والحركات الاجتماعية، هذا بجانب التطور فى أساليب استطلاع الرأى العام ودراسات المستقبل والعقد الاجتماعى وغير ذلك من المجالات.

ويعكس هذا التطوير توجها نحو التواكب مع متغيرات عالمية وإقليمية فرضت موضوعات وقضايا جديدة فى رسم السياسات العامة، كما يعكس انفتاحا على الفكر المتجدد الذى يؤمن بأهمية الفهم الشامل الذى يستفيد من خبرات علوم وتخصصات مختلفة بما فيها العلوم الاجتماعية.

ويبدو أن الموقف أبعد من ذلك وأعمق، فإذا كان التنوع المعاصر فى أنشطة المركز يعكس تطورا وانفتاحا على جديد الفكر والعلم وركائز صناعة القرار والحكم الرشيد، فإن المركز نفسه يُعد انتصارا لفكر جديد، فكر يعتمد على مبادئ مهمة منها أن السياسات التى لا تبنى على حقائق وأدلة من الواقع هى سياسات لا استمرارية لها، ومآلها أقرب إلى الفشل منه إلى النجاح. ومن هذه المبادئ أن الحوكمة الرشيدة (أو الحكم الصالح) لابد وأن تبنى على الشفافية والاستدامة.

ولا يمكن تحقيق هذين الشرطين إلا فى إطار وعى حقيقى موثق بالمشكلات القائمة، ومظاهر النجاح والفشل، ومظاهر السلبية والإيجابية، وجمع معلومات صادقة حول الواقع الذى نحن بصدد إصدار سياسات أو قرارات بشأنه.

فالمعلومات والحقائق الموثقة عبر المنهج العلمى هى التى تجعل القرار رشيدا بحق، وهى التى تمنح السياسة العامة التى تبنى عليها الاستمرارية والدوام، شريطة أن تؤخذ هذه المعلومات مأخذا جادا وأن تكون هى ذاتها دقيقة وصادقة.

إن صانع القرار هنا لا يجلس فى برج عاج كما أنه لا يفترض أنه عارف ببواطن الأمور، ولكنه يتصرف كرجل مهنى، صاحب حرفة أو مهنة، يدرس وينقب ويبحث ويجمع معلومات قبل أن يشخص ويصدر قرارا.

ومن ثم فإن القرار لا يصدر عن الهوى أو من أجل الهوى، وإنما يصدر بناء على شعور عميق بالمسئولية الاجتماعية والأخلاقية، ورؤية شاملة للصالح العام والخير العام.

وتقدم لنا الخبرة التاريخية دروسا مفيدة فى هذا الصدد، وهى دروس تؤشر على أن الأدلة التى تقدمها البحوث العلمية (الاجتماعية) يمكن أن تفيد لا السياسات فقط، ولكن مجرى التاريخ نفسه.

فالمتأمل لظهور فكرة دولة الرفاهية فى المجتمعات الأوروبية الغربية يجد أنها بنيت على حقائق ومعلومات جمعتها البحوث العلمية الاجتماعية حول أحوال عمال الصناعة وأحوال الفقراء فى المدن. لقد لفتت هذه الحقائق الأنظار إلى أن الرأسمالية الناهضة التى يتأسس عليها النظام الاقتصادى ينتج صورا من الفوارق الطبقية، وأن الظروف التى يعيشها العمال لا تتلاءم مع هذه النهضة التى ترفع مبادئ المساواة والعدالة والديمقراطية. ساهمت هذه البحوث فى تأهيل الذهنية العامة فى بريطانيا ـ الرائدة فى سياسات دولة الرفاهية ـ إلى أهمية إعادة النظر فى سياسات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والإسكان لكى ترتفع بأسلوب حياة الطبقة العاملة، وهو ما عرف بسياسات دولة الرفاهية. وقد نجحت هذه السياسات فى إيجاد مجتمع جديد يشعر المواطن فيه بروح المساواة والعدالة بصرف النظر عن الموقع الطبقى الذى يشغله.

لقد كانت الحكومات التى دفعت بهذه السياسات إلى الأمام رشيدة بحق. وأنا أشعر دائما بأن حكوماتنا المتتابعة تسعى إلى هذا النوع من الرشد عندما تبنى قراراتها على نتائج وعلى أدلة وشواهد من الواقع، وعندما تنشر نتائج البحوث دون خوف، وعندما تعترف بنقاط الضعف قبل أن تعترف بنقاط القوة، وهذه ثقافة جديدة فى مجتمعنا أحسب أن مركز دعم القرار بمجلس الوزراء المصرى قد ساهم بدور بارز فى بثها ونشرها.

ونحن بحاجة إلى أن ندعم هذه الثقافة الجديدة، وأن ننشرها لا فى عملية دعم القرار على المستوى المركزى فحسب، بل على المستوى المحلى أيضا، بل أحسب أننا بحاجة إلى أن تتحول هذه الثقافة إلى أسلوب حياة للأفراد والجماعات والمؤسسات، فكما نحلم بأن يكون نظام الحوكمة شفافا ونزيها ودائم التأمل فى سلبياته من أجل أداء أفضل وجهد أخلاقى أفضل، فإننا يجب أن نحلم بأن يكون هذا أسلوب تفكير وأسلوب حياة فى كل المجالات وعلى كل المستويات.

فإذا كانت الحكومة الفاضلة الرشيدة هى التى تعتمد فى قراراتها على الشفافية والصدق مع الواقع الذى تتعامل معه، وتتأمل إنجازاتها وعثراتها بشكل مستمر، فإن هذا هو أيضا سمة الفرد الفاضل الرشيد والمؤسسة الفاضلة الرشيدة والتنظيم الفاضل الرشيد.

وحتى تسود هذه الثقافة بيننا، فما علينا إلا أن نشكر من يبثها أو يحقنها فى أوصال الوطن، عبر أعمال وانجازات مضيئة، فردية كانت أم مؤسسية، وعلى رأسها هذه الإضاءات المنبعثة من مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved