ارحمونا من المؤتمرات!
صحافة عربية
آخر تحديث:
الثلاثاء 20 ديسمبر 2016 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
نظرة سريعة على النص العجيب لمباراة الإملاء التى أجريت فى لبنان، احتفاء بـ«اليوم العالمى للغة العربية»، وتتأكد أن المشكلة فى النفوس عميقة ومتأصلة. فرق بين أن يختار المنظمون نصا صعبا وأن يتقصدوه تعجيزيا، مستغلقا، فاقدا للروح. كى تكتب عليك أن تفهم. وبما أن الكلمات فى جزء كبير منها هى من الغريب والوحشى الذى يصعب فك شفرته من دون العودة إلى القواميس، فلربما أن من بادر وشارك، سيشعر فى المرة المقبلة بالنفور والصدود.
مع أن الهدف من عيد العربية ليس بث الذعر فى قلوب الراغبين فى الاقتراب منها، بقدر ما هو بناء التآلف والتناغم بين الناس ولسانهم الذى أصابه الإعجام حد البلبلة وفقدان القدرة على التعبير.
الشائع أن الفصحى برية وغير أليفة، لهذا تهجر وتنبذ. تأكيد الفكرة حتى لمن امتلكوا شجاعة الإقبال، يعزز رأى المدبرين عنها والمولين لها ظهورهم، وتدعمهم بالدليل القاطع. الأخطاء الإملائية ترتكب حتى بحق الكلمات المتداولة، والهمزات على أنواعها، ثمة من لا يفرق بين الأحرف المتشابهة لفظا أو كتابة أيضا. المعضلة شائكة، وتكبير الحجر وجعله صخرة لا تحمل ولا تجر، يغرى بالإعراض.
تصنيفات أجريت تكرارا اعتبرت العربية إما الأكثر صعوبة فى العالم، أو الثالثة من بين الأصعب، لتعقيدات نحوها وصرفها حتى أنها تتقدم الصينية أحيانا. كيف تقارن الضاد بالصينية التى يحتاج متعلمها إجادة ألفى رمز ليقرأ جريدة، وعليه أن يصل إلى أربعة آلاف ليصبح قادرا على قراءة كتاب؟ مقابل 28 أبجديا عربيا، على الراغب فى الصينية أن يحفظ 214 مفتاحا دلاليا أساسيا، ومع ذلك، باتت الصينية من أكثر اللغات نموا، بفضل استشراس أبنائها فى ابتكار السبل وتجديد المناهج، وتوظيف كل مثير وفاتن لجعلها أقرب إلى الألعاب والتسالى المشوقة.
الطرافة تنقصنا، التخفف من التجهم الكامن فى كتب الأطفال، فى ألوان الرسوم، وبهوت الطباعة، فى تحرير الخط، والتخلص من آفة الخطابة والإنشاء والتكرار الممض والتعابير الإرشادية السامة. ما بين المدافعين عن الضاد حد خنقها بالمدائح والصادين عنها لدرجة التمنع عن استخدامها، لا تزال واحدة من أهم شركات الإنترنت فى لبنان ترسل لمستخدميها إيميلات بالإنجليزية، مع أن بعضهم أمى بالكاد يتهجى العربية، وجمعية ثقافية مهمة، هدفها الحفاظ على «الإرث»، تتبنى لغة شكسبير لتوجيه بياناتها الصحافية، وهى اللغة التى يتحدث بها أعضاؤها فى اجتماعاتهم وصالوناتهم. فلا عتب، إذن، على الشبان الصغار الذين لم يجدوا من يشرح لهم خطورة نبذهم لهويتهم اللسانية. مهرجان للسينما لا يتوانى عن كتابة أسماء الأفلام العربية التى يعرضها بالفرنسية، جمعية تعنى بالفقراء والمعوزين قررت أن تحرر موقعها الإلكترونى بلغة لا يفهمها الذين تتوجه إليهم وتدعى معونتهم.
كأنما تتحول العربية إلى مجرد عيد خطابى، ينقضى بانتهاء اليوم اليتيم الذى خصص لها، مع أن الحلول لا تحتاج كل هذه المؤتمرات والديباجات الطويلة والشروحات المسهبة. مضت سنوات من التنظير والتشريح وهى تكفى وتزيد. ينفض الجمع ويمضى كل إلى سبيله. لا تغيير فى المناهج التدريسية التى هى لب وأساس، لم يقدم التربويون والأكاديميون، الذين ينظمون الاحتفاليات الرنانة ووصلت إلى أوروبا وهم يتحدثون فيها حد الإنهاك، على جعل القراءة اليومية والكثيفة سبيلا لإنقاذ طلابهم، والروح النقدية التى تفتح أبواب النقاش مخرجا. موت العربية نتيجة بديهية لمناهج التلقين والتغييب المطبقة منذ مائة عام، والمستمرة حتما ما دام أن الاستسهال منجاة والعادة تقارب العبادة.
المدرسون يفهمون ذلك، الدكاترة الأكارم يعون عمق الأزمة. حتى فى الجامعات، يحفظ الطلاب المحاضرات التى توزع عليهم، ويلفظونها مشوهة، مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية على كراريس الامتحانات، وينجحون، ويحصدون الشهادات. يتخرج طالب الأدب العربى وهو لم يقرأ أبى حيان التوحيدى، أو الجاحظ أو حتى أنسى الحاج أو سعيد عقل. لا مبالغة فيما نقول. أعمدة الأدب مغيب عدد كبير منهم. طلاب فى الماجستير، لم يسمعوا من قبل باسم توفيق الحكيم، ولم يقع بين أيديهم كتاب لطه حسين أو عباس محمود العقاد. إذا كان هذا حال طلاب العربية، فما وضع من فى الفيزياء أو الكيمياء أو الهندسة؟ وكيف لعلمائنا أن يخدموا أمتهم وهم بلا هوية أو انتماء، ودون لسان؟ عشق التنظير مقتلة، الانتقال إلى العمل يحتاج تقشفا فى القول وبلاغة فى الفعل. ما دام أن الشعار المتبنى هذه السنة هو «تعزيز انتشار اللغة العربية» فلنسع بين أهلها.