يجتاح أماكن العمل التابعة للنظم الغربية هدوء مريب فى النصف الثانى من شهر ديسمبر، وذلك مع اقتراب أعياد الميلاد ورأس السنة. يأتى ذلك الهدوء أصلا بعد عدة أسابيع مما يشبه الزوبعة، إذ يخيم على أماكن العمل تلك توتر عال يبدأ فى الخريف، حين يدق العد التنازلى على شبابيك الموظفين، مذكرا إياهم بالتزامات عليهم أن يفوا بها قبل نهاية العام. ولا يتوانى كل من هو فى موقع مسئول عن تذكير أعضاء فريقه بالمواعيد النهائية لتسليم ما تبقى لديهم من أعمال قبل أن تغلق المكاتب أبوابها بمناسبة أعياد آخر السنة.
***
تبدأ فى الفترة نفسها، أى آخر أسبوعين من السنة الميلادية، الأجوبة مسبقة الصنع بالتدفق عبر البريد الإلكترونى لتقول أن الشخص المعنى فى إجازة. «أنا فى إجازة حتى اليوم الفلانى وسوف يؤثر ذلك على قدرتى على أن أرد عليكم بسرعة. أتمنى لكم أعيادا سعيدة». رسالة نمطية باردة كتبها شخص قبل أن ينطلق نحو أسبوع حافل بالأنوار وبدفء العائلة ورائحة الديك الرومى وكعك العيد. أو هكذا يبدو لمن يتلقى الجواب فى فترة من السنة معروف عنها، فى أوروبا وأمريكا، أنها أشبه بصحراء خالية من البشر.
***
أتخيل مكاتب كبيرة فى مدينة باردة، الشبابيك تطل على الشوارع الداخلية لكنها شبه معدومة الفائدة فى أسابيع لا تظهر فيها الشمس، إذ لا ضوء يدخل ولا دفء. ترك أصحاب المكاتب بعض الأوراق قرب أجهزة الكمبيوتر المختلفة، واكتسى سجاد المكان ــ الذى غالبا ما يكون رمادى اللون ــ ببقايا احتفال الموظفين قبل أن يهرع كل منهم إلى بيته وعائلته.
***
قبل مغادرة العمل، يشغل الموظف وضعية «بعيد عن المكتب» فى علبة بريده الإلكترونى، بحيث يفهم من يحاول التواصل معه أنه من الصعب أن يرد على رسائل متعلقة بالعمل فى أثناء الاحتفالات السنوية. طبعا فى عصر الهواتف الذكية والانترنت المتوافر فى الجو لا يبعد أى موظف كثيرا عن المكتب فعليا، إنما يعطى الجواب الآلى الخارج من علبة البريد شرعية للتأخر فى الرد، وهى شرعية مطلوبة فى وجه توقع أننا جميعا متوفرين فى أى وقت للرد على الرسائل.
***
«بعيد عن المكتب» ترف قد لا يناله الكثيرون فى منطقتى، فهى حالة استحقاق للإجازة وحق مقدس لا لبس فيه ولا مجال لنقاشه فى دول يأخذ فيها قانون العمل مجاله الطبيعى، تماما كما هى الاستراحة خلال النهار حق لا يتم التفاوض عليه. يتوقف الموظف عن العمل، يخرج إلى الشارع، يأكل وجبة الغداء أو يعمل ما يحلو له، ثم يعود إلى شاشة الكمبيوتر حتى آخر النهار. «بعيد عن المكتب» أيضا جملة شديدة القسوة حين يتلقاها شخص هو بأشد الحاجة للمساعدة. هو شخص بعيد عن أضواء شجرة العيد ورائحة الشموع المعطرة. «بعيد عن المكتب» أراها أحيانا وكأنها باب تم صفقه فى وجهى دون أن أستطيع حتى أن ألمح من يقف وراءه.
***
فى عالمى المتخيل، لا يحدث أى شىء بشع فى أثناء الإجازة، يتحول الكون إلى عالم أشبه بقصص الأطفال، فيغطى الثلج الناعم أسطح البيوت وتضاء الشوارع بفوانيس قديمة من الحديد الأسود المعلقة على عواميد. يغطى البخار شبابيك المنازل دون أن يخفى تماما حركة أفراد العائلة من خلفها، فأرى الأم وهى تتحرك بين المطبخ والمائدة، وأرى الأطفال يلعبون. لا أدرى أين هو الأب لكن دعونا نَقُلْ: بما أنه عالم متخيل، أنه يوقد نار المدفأة ويشوى فوقها الكستناء. نعم هى صورة نمطية أشبه برسومات غير واقعية لم تعد حتى تظهر فى قصص الأطفال الحديثة. لكن بالنسبة لى، ما زالت تلك القصص كفيلة بأن تنتزعنى من صور خيمة اللاجئين التى أغرقتها المياه، أو من صورة طفل يكاد يتجمد لأن لا مدفأة عنده.
***
«بعيد عن المكتب» لكن ليس بعيدا عن عالم متخيل فيه بسكويت بنكهة الزنجبيل وحلوى لونها أحمر. ترتطم رسالتى بجواب بارد يقول لى فيه صاحبه أنه مشغول بالاحتفالات فالوقت غير مناسب للرد على طلب يمكنه أن ينتظر. فى عالمى المتخيل يأخذ الشر هو الآخر إجازة وقت الأعياد فيختفى شبح الموت لمدة أيام ريثما يتحسس كل مريض جسده ويقرص خده ليتأكد أنه مازال هنا. فى عالمى المتخيل تتوقف المعارك حتى ولو لأخذ هدنة صغيرة وقت الأعياد، فلا مكان للدم بين الاحتفالات المقدسة ولا أنين يعلو فوق صوت الترانيم. فى عالمى المتخيل يضع الجميع بريدهم الإلكترونى فى وضعية «بعيد عن المكتب» ونتوقف تماما عن فعل أى شىء لا يساهم بالاحتفال. فى عالمى المتخيل تتحول الخيمة إلى بيت وتكسو المائدة أطباق ملونة، فيعود اللون إلى الوجوه الشاحبة وتحل رنات الضحكات مكان بكاء الأمهات الثكلى.
***
فى عالمى المتخيل تكون عبارة «بعيد عن المكتب» مكتوبة باللونين الفضى والذهبى على خلفية بيضاء، وهى بمثابة الجرس الذى ينذر ببدء أسبوعين من الحب، أسبوعين من الهدوء، أسبوعين من اختفاء القلق وأسبوعين من الحلم بسنة أحلى. الجميع بعيد عن المكتب بسبب انشغاله بأمور جميلة، بألون زاهية، بروائح الخبز الطازج. نحن بعيدون عن المكتب وقريبون من القلوب.