تركيا تحاكى الصين أم تواجه المجهول؟
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 20 ديسمبر 2021 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
إذا أردت أن تعرف ماذا يحدث للعملة التركية هذه الأيام فلن تسعفك مبادئ الاقتصاد التى تعلمتها فى أى مكان. سوف تدور فى دوائر مفرغة محاولا فهم الهدف من تخفيض الليرة المتعمد من قبل المركزى التركى ومن ورائه رئيس البلاد، ومليارات يتم ضخها فى ذات الوقت لإنقاذ الليرة من السقوط الحر أمام الدولار الأمريكى!
لكن من الواضح أن نظرية الرئيس التركى فى السياسة النقدية تتجاوز هذا إلى بعد تاريخى، فهى تتمثل التجربة الصينية فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى، عندما أقبلت الصين على تخفيض متعمد لعملتها من أجل غزو الأسواق العالمية بصادراتها الصناعية فى الأساس. لكن المؤكد أن الصين كانت لديها خطة تصنيعية متكاملة، واستفادت حينها من ظروف اقتصادية مواتية، وقواعد مختلفة للعبة الإنتاج والتصدير. كانت حقوق الملكية الفكرية غائبة فى كثير من الأسواق، وكانت منتجات مقلدة ومنخفضة الجودة تجد مكانها سريعا فى أسواق مضطربة، تضربها أزمات الديون الرديئة، وارتفاع معدلات الفقر، والكثير من الصدمات البترولية. بل إن أساسيات التجارة الدولية التى انتصرت لها منظمة التجارة العالمية والكثير من الاتفاقيات الإقليمية لاحقا، لم تكن مؤهلة للتعامل مع الإغراق الصينى بالصورة التى نراها اليوم. استطاع المنتج الصينى أن يعتمد خطة تدريجية للتحول من الإنتاج الكثيف المقلد منخفض الجودة، إلى منتج أرقى نسبيا، حتى نجحت خطة التحول الاقتصادى خلال عقدين من الزمن فى استثمار فوائض التصدير من العملة الصعبة، لخلق اقتصاد إنتاجى، يستهدف اليوم رفاهية المستهلك، ويعتمد على مزيد من التوسع فى قطاع الخدمات، وعدم الركون إلى الصادرات كمحرك وحيد أو حتى أساسى للنمو.
•••
منذ بداية العام الحالى فقدت الليرة التركية نحو 50% من قيمتها، بعد إصرار الرئيس التركى على خفض أسعار الفائدة بانتظام على الرغم من ارتفاع معدلات التضخم. وعلى خلفية التخفيض الأخير (للمرة الرابعة على التوالى) انخفضت الليرة بنسبة 7% أمام الدولار الأمريكى لتبلغ فى منتصف شهر ديسمبر نحو 16.8 ليرة/دولار، وكان شهر نوفمبر الماضى وحده شاهدا على تراجع قيمة العملة التركية بنحو 29% من قيمتها! المركزى التركى مصر على تخفيض أسعار الفائدة وفقا لخطة رئاسية، وهو يستهدف معدلات تقترب من 5% فى حين أنها تدور حاليا حول 14%، وهذا المستهدف يضع ضغوطا عظيمة على العملة الوطنية، ويتركها ضحية للمضاربات فى بورصات العملات.
لا أحد يعرف اليوم خطة تصنيعية تركية يمكنها أن تغنم من تخفيض العملة الوطنية بهذه الوتيرة. معظم قطاعات الاقتصاد التركى تعتمد على مدخلات مستوردة، وهى تئن تحت وطأة تراجع قيمة الليرة بصورة غير مسبوقة. التراجع ليس منتظما ومستمرا وحسب، بل هو مصحوب بتقلبات عنيفة تجعل التنبؤ بسعر صرف الدولار أمرا مستحيلا لأكثر من يوم أو يومين قادمين! كيف يتسنى للمستوردين تخطيط مشترياتهم أو معرفة تكاليف الإنتاج ووضع أى خطط إنتاجية؟! يقول أحد المحللين فى معرض تعليق منشور بموقع فاينانشيال تايمز فى 17 ديسمبر الحالى ما مفاده: «لو كان الحل المثالى لإنعاش الصادرات وحفز الاستثمار الأجنبى هو تخفيض العملة، لكانت زيمبابوى الاقتصاد الأهم فى العالم!». قطاع المنسوجات على سبيل المثال يعد من القطاعات التصديرية المهمة فى تركيا، وقد تدفقت إليها طلبات استيراد بنحو 30 مليار دولار فى أعقاب التراجع الكبير فى قيمة الليرة، لكن أحد كبار المصنعين يقول إنه يعتمد فى مدخلات صناعته على منتجات مستوردة، ولا يعرف لأى مدى زمنى يمكنه الاستمرار فى السوق، بل يتوقع بنسبة 50% أن يغلق أبوابه خلال 12 شهرا!
العام الماضى طغت السياسة التركية الخارجية على مستهدفات الاقتصاد، وتسببت فى فقدان أدوات السياسة النقدية لمرونتها المعتادة. فقد كان المركزى التركى يواجه التضخم برفع أسعار الفائدة (وليس كما يفعل اليوم) ومع ذلك لم تكن قيمة العملة تستجيب لهذا الرفع، بما تسبب فى لجوء المركزى إلى بيع جانب من احتياطى الذهب! وحينها كتبت السطور التالية فى التاسع من نوفمبر 2020 بمقالى الأسبوعى فى جريدة الشروق، تحت عنوان «جائحة الاقتصاد التركى»: «وللتعرف أكثر على درجة الانفتاح الاقتصادى التركى على العالم، فإن مؤشر الانفتاح التجارى لتركيا ــ والذى ينسب إجمالى صادرات الدولة ووارداتها إلى الناتج المحلى الإجمالى ــ قد تطور من 5.73% عام 1960 إلى أعلى مستوياته فى عام 2019 بنسبة 61.39% من الناتج المحلى الإجمالى لتركيا. علما بأن المتوسط العام للانفتاح التجارى لدولة كبرى مثل الصين خلال الفترة لم يزد على 27.12% ولم يزد على 35.68% عن العام 2019. السوق الصينية الداخلية يمكنها أن تستوعب الناتج الاقتصادى الأكبر فى العالم حتى وإن اضطربت حركة التجارة الخارجية للدولة خلال بعض السنوات. لكن على الرغم من ذلك فإن المتوسط العالمى لعدد 143 دولة يشملها التصنيف يصعد بنسبة الانفتاح التجارى إلى 94.77% من الناتج الإجمالى لمجموعة الدول الأمر الذى يجعل تركيا فى منطقة منخفضة نسبيا، لكنها تظل أكثر انفتاحا (ومن ثم عرضة للتقلبات العالمية) من مصر التى حققت نسبة لا تزيد عن 48.28% عام 2018 وكانت أعلى درجة انفتاح لها عام 1981 وبلغت 74.46% من الناتج المحلى الإجمالى».
وعلى الرغم من نمو الصادرات التركية خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2021 بنحو 35.9% على أساس سنوى لتبلغ 160.95 مليار دولار، فإن العجز فى ميزان التجارة مازال قائما، ويبلغ 32.3 مليار دولار خلال ذات الفترة، وإن كان قد انخفض عن العام الماضى بنحو 14.6%، بيد أن هذا الانخفاض لا يعوض الخسائر الكبيرة لسائر قطاعات الاقتصاد التركى نتيجة لمجازفة السياسة النقدية الراهنة. قطاع التشييد والبناء ــ مثلا ــ الذى يصفه البعض بأنه أحد القطاعات المفضلة للنظام التركى، والذى يمثل وحده نحو 5% من الاقتصاد، يعانى من ارتفاع كبير فى التكاليف على خلفية انهيار الليرة، وقدر هذا الارتفاع فى التكاليف بنحو 90% نوفمبر الماضى مقارنة بنفس الشهر من العام الماضى.
•••
التحدى التركى للدول المحيطة فى أوروبا من خلال دعوات المقاطعة لمنتجات بعض دول أوروبا حينا، ومن خلال تصريحات وسياسات هجومية أحيانا، جعل النظام التركى على مشارف عزلة سياسية، تتعارض مع خططه الانفتاحية المفرطة فى الاعتماد على التصدير، كقاطرة شبه وحيدة للنمو المستهدف، والذى يتوقع مسئولون أتراك أن يبلغ 9% خلال العام الحالى. إذ كيف تستهدف الإنتاج بغرض التصدير وأنت لا تهتم بالمستهلك المحلى (84 مليون نسمة) الذى يتوقع معدلات للتضخم لن تقل عن 30% فى الأشهر القليلة القادمة، أو المستهلك الأوروبى (نحو 700 مليون نسمة) الذى لن يكون تفضيله للمنتج التركى الخدمى أو السلعى معتمدا فقط على سعر الصرف، وإنما على اعتبارات أخرى وحوافز يتوقع أن تقدمها الحكومات الأوروبية لهذا المقصد التجارى. السياحة الأوروبية الوافدة إلى تركيا والتصدير إلى دول أوروبا يظل الأجدى اقتصاديا لانخفاض تكاليف النقل والطيران، فلا يعقل أن تستبعد تلك الأسواق من معادلة التصدير التركية فى ظل مراهنة شديدة الخطورة على تخفيض العملة لتنشيط الصادرات وحفز الاستثمار الأجنبى.
هناك أيضا مشكلة كبرى فى الداخل التركى، ترى أن الحكومة التركية تفضل المصدرين على حساب سائر المواطنين. تراجع الدخول وانخفاض القوى الشرائية للمواطن التركى فى سوق استهلاكية كبرى تقترب من 90 مليون مستهلك يؤثر سلبا على كثير من القطاعات الإنتاجية، ويؤدى إلى تراجع المبيعات المحلية بصورة مقلقة. لا تنس عزيزى القارئ الفرق الكبير بين المستهلك التركى الأوروبى النزعة، الذى يميل إلى الرفاهية وتفضيل الخدمات والانفتاح على الأسواق العالمية، مقارنة بالمستهلك الصينى فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى حيث الاقتصاد المغلق والطبيعة التقشفية المائلة إلى النمط الشيوعى فى الإنتاج والتوزيع والاستهلاك.