استراتيجية الأمن القومي لليابان الجديدة.. والاستقرار في الشرق الأقصى
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 21 يناير 2023 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
فى ديسمبر من العام الماضى، قامت اليابان بأول تحديث لاستراتيجية الأمن القومى اليابانى، وهى الاستراتيجية التى تم صياغتها للمرة الأولى قبل عشر سنوات (٢٠١٣)، والتى تقوم بتعريف أهم محددات الأمن القومى اليابانى ومتطلبات الحفاظ على هذا الأمن! ومع تحديث الاستراتيجية أعلنت اليابان أيضا عن تحديث لسياستها الدفاعية، وهو تحديث يقع بشكل غير دورى ويحدد أهم تحديات السياسة الدفاعية لليابان ونوع المعدات العسكرية والإنفاق العسكرى المطلوب لمواجهة هذه التحديات!
استقبلت الدول المجاورة لليابان بالإضافة إلى الولايات المتحدة (الحليف العسكرى الرئيسى لليابان منذ الحرب العالمية الثانية)، هذه الاستراتيجيات الجديدة بردود فعل متباينة، بين إدانة وإعراب عن القلق واتهام بتغيير اليابان لسياستها الدفاعية المفروضة عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (مثل الصين)، وبين ترقب حذر (روسيا)، وترحيب محدود (كوريا الجنوبية)، وبين ترحيب وتأييد وتعهد باستمرار الشراكة العسكرية (الولايات المتحدة).
بالإضافة إلى كل ذلك أحدثت الاستراتيجية الجديدة جدلا كبيرا داخل اليابان وخارجها حول ما إذا كانت اليابان ستغير سياستها العسكرية الدفاعية التى تبنتها مجبرة بعد الحرب العالمية وتتحول إلى سياسة هجومية وسط جدالات أخرى حول مدى دستورية هذه السياسة الجديدة!
• • •
مبدئيا وحتى نضع القارئة والقارئ غير المتخصصين فى الصورة، فإن اليابان تخلت عن سياستها الهجومية عسكريا، كما تخلت عن امتلاك جيش هجومى بعد هزيمتها واستسلامها فى ١٩٤٥. حيث قامت قوات الحلفاء بقيادة أمريكية باحتلال الأراضى اليابانية ثم إحداث تعديلات دستورية قسرية على الدستور اليابانى والذى تم اعتماده فى ١٩٤٧ وقد تخلى الإمبراطور عن سلطاته وتحول إلى رمز ورأس للدولة دون سلطات سياسية حقيقية. فى هذا الدستور أيضا وتحديدا فى مادته التاسعة والتى يمكن ترجمتها إلى العربية (ترجمة غير محترفة من الكاتب) لتقول:
«يتطلع الشعب اليابانى بإخلاص إلى سلام دولى قائم على العدل والنظام، ويتخلى الشعب اليابانى للأبد عن الحرب كأحد حقوق الدولة السيادية، كما يتخلى عن القوة أو التهديد باستخدامها كوسيلة لتسوية النزاعات الدولية. ومن أجل تحقيق الهدف من الفقرة السابقة، لن يتم الحفاظ على القوات البرية والبحرية والجوية فضلا عن أى إمكانات أخرى يمكن استخدامها فى الحرب، كما تتخلى اليابان عن حقها فى خوض الحروب».
ولتنفيذ فقرات هذا الدستور الذى اشتهر باسم دستور السلام اليابانى، فقد وقعت اليابان على اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة فى ١٩٥١ لتنسيق المهام الدفاعية والأمنية بين الدولتين وهى الاتفاقية التى جعلت جيش الولايات المتحدة واقعيا هو المعنى بالدفاع عن اليابان من أى عدوان خارجى، كما قامت اليابان بإنشاء قوات الدفاع الذاتى عام ١٩٥٤ وهى قوات دفاعية برية وبحرية وجوية تتسلح بما يمكنها فقط استخدامه للدفاع عن الأراضى اليابانية من أى هجوم محتمل دون إمكانية شن أى هجوم على أى دولة أخرى، كما تقوم بعدة مهام أخرى مثل المساعدة فى إدارة الكوارث كالفيضانات والزلازل... إلخ.
صحيح ظل تخلى اليابان عن حقها فى الحرب أحد أهم مبادئ السياسة الخارجية والأمنية اليابانية، وصحيح أن كل الحكومات التى تعاقبت على اليابان قد احترمت دستور السلام حتى اللحظة، بيد أن الأمر لم يخلُ من جدل وضغوط داخلية لتعديل الدستور فى ظل المتغيرات الدولية التى جدت منذ انتهاء الحرب الباردة، وكذلك بعد تصاعد التهديد النووى الكورى الشمالى لليابان. ورغم هذا الجدل، ورغم اعتقاد الكثير من المحللين أنه نظرا لتغير الظروف الدولية فإن الولايات المتحدة قد لا تمانع بل وقد ترحب بخطوة تعديل الدستور اليابانى، لكن ظل الدستور بلا تعديل وظل التخلى عن الحرب هو السياسة المعتمدة بواسطة الأحزاب الحاكمة وفى مقدمتها الحزب الليبرالى الديموقراطى، والذى بعكس ما يوحى اسمه، فهو حزب محافظ للغاية بل ويمكن تصنيفه على أنه حزب يمينى!
• • •
لكن هل تلك الاستراتيجية الأمنية والدفاعية الجديدة تعنى إعادة اليابان لحقها فى الحرب وبالتالى تخليها عن دستور السلام؟
الإجابة المبدئية هى لا، ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، فقد اشتملت استراتيجية الأمن القومى الجديدة وكذلك سياسة الدفاع المحدثة على تغيرين رئيسيين على النحو التالى:
التغيير الأول متعلق بتطوير سياسة كانت قد تبنتها اليابان بالفعل قبل ذلك تسمح لها بصد أى هجوم جوى مضاد، وتسمى السياسة القدرة على الهجوم المضاد، بالإنجليزية counterstrike capability بمعنى استخدام اليابان لشبكتها الدفاعية فى توجيه ضربة لأى هجوم أو ضربة جوية أو مقذوفة تتجه نحو الأراضى اليابانية! لكن التعديل الجديد أدخل تغييرا نوعيا على هذه السياسة بحيث أنها تسمح الآن لليابان بأن يتم صد الهجوم حتى داخل أراضى الدولة المعتدية! بعبارة أخرى، فإنه إذا ما رصدت اليابان استعداد دولة لتوجيه ضربة لها، فإن من حق اليابان توجيه ضربة استباقية حتى لو لم يتم تحميل المقذوفات المفترضة فى الجو!
وكما نرى فإن هذا تغيير نوعى خطير، صحيح أن رئيس الوزراء اليابانى كشيدا أعلن وأكد أن هذا لا يعنى تغيير السياسة الدفاعية، ولكن يعنى فقط تطويرها، إلا أن الجدل ما زال قائما حول الكيفية التى ستتمكن بها اليابان من التأكد من أن الضربة المعادية المفترضة موجهة لها فى الأساس! فضلا عن أن اعتماد هذه السياسة يعنى أيضا تطوير اليابان لتكنولوجيا الحرب وامتلاك معدات عسكرية يمكن أن تستخدم فى الهجوم على دول أخرى!
أما التغيير الثانى فهو متعلق بالسياسة الدفاعية ومتمثل فى سعى اليابان إلى زيادة إنفاقها العسكرى من ١٪ من إجمال الناتج القومى الإجمالى إلى ٢٪ بحلول عام ٢٠٢٧، وهو متوسط معدل الإنفاق العسكرى فى دول حلف الأطلسى (الناتو)، كما أن هذه السياسة الجديدة تنص على تطوير الأسلحة اليابانية التى يمكن استخدامها للدفاع عن الأراضى اليابانية من أى هجوم محتمل! وهكذا فمثل هذه السياسة الجديدة تمثل تهديدا وربما تغييرا فى معادلة الأمن فى شرق آسيا والمحيط الهادى وخصوصا فى نظر الصين وكوريا الشمالية وروسيا التى تتاخم حدودها الشرقية شمال الأراضى اليابانية!
• • •
لكن الملفت فى استراتيجية الأمن القومى الجديدة هذه تغير اللهجة بخصوص الصين وروسيا وتايوان! ففى الجزء الخاص بالصين، كانت استراتيجية الأمن القومى التى تم اعتمادها قبل عشر سنوات تنتقد الصين بسبب عدم شفافية سياستها الأمنية والدفاعية، ولكنها فى الوقت نفسه فتحت الأبواب للصين من أجل تطوير العلاقات الشعبية والسياسية والأمنية والاقتصادية، لكن السياسة الجديدة جاءت بعبارات أكثر حدة، حيث اعتبرت الصين هى التحدى الأبرز للأمن القومى اليابانى ومهدد للاستقرار الدولى!
وفيما يتعلق بروسيا، فقد حدثت تغيرات درامية فى اللهجة، من رؤية الاستراتيجية المعتمدة فى ٢٠١٣ روسيا حليفا يمكن تطوير العلاقات الثنائية معه فى كل المجالات إلى لهجة تصف روسيا صراحة بأنها المهدد الأبرز للدول الأوروبية وللأمن والاستقرار فى العالم بعد غزو روسيا لأوكرانيا، كذلك فقد اعتبرت استراتيجية الأمن القومى اليابانى الجديدة أن التعاون بين الصين وروسيا هو محل قلق أمنى لها وللدول الحليفة معها!
وفى المقابل فإن اللهجة تجاه تايوان أصبحت أكثر ترحيبا معتبرة أن الأخيرة هى صديق وحليف لليابان نظرا لاشتراك الدولتين فى العديد من القيم المشتركة وفى مقدمتها الديموقراطية! بينما وكما هو متوقع لم يحدث تغيير كبير بخصوص لهجة اليابان تجاه كوريا الشمالية والتى تمثل التهديد الأكبر والأكثر خطورة لليابان!
ترى دول الجوار أن هذا انقلاب يابانى على معادلة الأمن فى شرق آسيا والمحيط الهادئ، بينما تبرر اليابان خطوتها بارتفاع التهديدات الأمنية للصين وروسيا وكوريا الشمالية وما يتطلبه ذلك من تطوير القدرات الدفاعية اليابانية، بينما يرى الكثير من المراقبين بكل تأكيد أن ثمة تغييرات ملفتة للنظر فى اليابان بخصوص سياستها الأمنية والدفاعية بما قد يغير بالفعل من المعادلات الأمنية والسياسية فى شرق آسيا خلال العقد القادم!
أستاذ مساعد للعلاقات الدولية ــ جامعة دنفر