معالم لعبة الأمم الجديدة فى الشرق الأوسط
محمد السماك
آخر تحديث:
الأحد 21 فبراير 2010 - 9:47 ص
بتوقيت القاهرة
التقت زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون إلى كل من قطر والسعودية، وزيارة بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى موسكو، حول موضوع واحد، وهو الملف النووى الإيرانى.
فهل صحيح أن الولايات المتحدة ضد مشروع إيران النووى؟
وهل صحيح أن العقوبات الأمريكية والدولية على إيران تشكل قوة ردع حقيقية تعطل قدرة إيران على المضى قدما فى مشروعها؟
وهل صحيح أن إيران قلقة جديا من التهديدات الأمريكية العلنية، بشقيها السياسى والعسكرى، ضد سياستها النووية؟
قد يبدو طرح هذه الأسئلة مثيرا للاستغراب.. ولكن لابد من التوقف أمام تساؤلات من نوع آخر فى محاولة للإجابة على هذه التساؤلات المستغرَبة. من هذه الأسئلة:
هل تستطيع الولايات المتحدة التى تشنّ حربا على تنظيم القاعدة وعلى حركة طالبان فى أفغانستان أن تتحمّل فى الوقت ذاته مضاعفات فتح جبهة جديدة ضد إيران؟ علما بأن لإيران حدودا واسعة مع أفغانستان، وأن لها نفوذا قويا فى أوساط بعض القبائل الأفغانية الشيعية؟
وهل تتحمّل الولايات المتحدة ردّ فعل إيرانى انتقامى قد يكون العراق مسرحا له، خصوصا بعد أن أثبتت إيران أنها تتمتع بنفوذ قوى داخل العراق استخباراتيا وأمنيا وفوق ذلك مذهبيا؟
ثم هل تتحمّل الولايات المتحدة وحلفاؤها فى أوروبا الغربية رد فعل إيرانى قد يستهدف مضيق هرمز، الشريان الأهم لنفط الخليج العربى إلى العالم؟
إذا كانت الإجابة عن كل هذه التساؤلات بالنفى، فلماذا تتواصل إذن عملية عضّ الأصابع ــ علنيا على الأقل ــ بين طهران وواشنطن؟.
من الواضح أن المشروع النووى الإيرانى وضع الدول العربية أمام استحقاق إقليمى جديد. ذلك أنه مع وجود خلافات عربية ــ إيرانية حول الجزر العربية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى، وحول التوظيف السياسى للاختلاف المذهبى، ومع طموحات إيران الإقليمية المعلنة بأنها اللاعب الأول فى الشرق الأوسط، أصبح المشروع النووى الإيرانى يشكل مصدر قلق عبّرت عنه أكثر من دولة عربية. وسواء كان هذا القلق جديا أو مبالغا فيه، أو موحى به، فإنه أدى إلى متغيرات بسيكولوجية ــ سياسية مهمة ما كانت لتحدث من دون هذا القلق. فالولايات المتحدة تجد ولأول مرة استجابة عربية لقبول مظلتها الأمنية، وحتى للسعى وراء هذه المظلة.
قد تكون ثمة حاجة حقيقية لهذه المظلة وقد لا تكون. ولكن فى الحالتين فإن الولايات المتحدة لن تقدمها مجانا. لابد من ثمن مقابل نشر المظلة. والثمن لا يقتصر على الاقتصاد فقط، ولكنه يشمل السياسة أيضا.
لقد قررت اليابان لأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية الكشف عن الوثائق السرية المتعلقة بمعاهدات الحماية التى كانت عقدتها مع الولايات المتحدة، ومنها إقامة قواعد عسكرية أمريكية «فى أوكيناوا»، ومنها السماح بمرور السفن العسكرية الأمريكية التى تعمل بالطاقة النووية فى مياهها الإقليمية والرسو فى موانئها، ومنها تسديد تكاليف كل نفقات مظلة الحماية التى توفرها القوات الأمريكية لليابان والتى بلغت أرقاما خيالية منذ ذلك الوقت حتى الآن.
فى ضوء ذلك يمكن التفكير فى الأهداف البعيدة المدى التى تخطط لها الولايات المتحدة استثمارا للقلق العربى «أو التخويف؟» من المشروع النووى الإيرانى.
إن أسوأ ما حدث حتى الآن هو نجاح عملية الإيحاء بأن المشروع الإيرانى لا يستهدف إسرائيل وحدها، ولكنه يستهدف الدول العربية واقعيا..
إن تثبيت وتكريس هذا النجاح يفتح ثغرة أمام مساعى التسوية العربية ــ الإسرائيلية على قاعدة لم تتوافر من قبل، وتقوم على صناعة موقف عربى ــ إسرائيلى مشترك.. يكون الملف النووى الإسرائيلى لحمته وسداه!. ويبدو أن من مستلزمات ذلك تضخيم حجم الملف الإيرانى لتقصير المسافة بين الموقفين العربى والإسرائيلى. ذلك أنه كلما ازداد حجم تضخيم المخاطر النووية الإيرانية، كلما تقلّصت هذه المسافة.
ومن هنا يبدو المشروع النووى الإيرانى ضروريا فى حد ذاته لصناعة شرق أوسط جديد بعد أن حال الصراع العربى ــ الإسرائيلى مرارا دون ذلك.
ليست إيران طرفا مباشرا فى لعبة الأمم الجديدة فى المنطقة. فهى تتمسك بمواقف ثلاثة معلنة: الموقف الأول أنها لا تهدف إلى إنتاج سلاح نووى، وان كانت تؤمن بأنها ليست أقل صدقية من باكستان فى إنتاج مثل هذا السلاح وفى التحكم به وضبط السيطرة عليه. والموقف الثانى أن ترسانتها العسكرية موجهة إلى إسرائيل تحديدا وليس إلى الدول العربية والإسلامية المجاورة من الشمال والشرق والغرب. أما الموقف الثالث فهو دعوتها الدول العربية، وخصوصا دول مجلس التعاون الخليجى، إلى التحالف معها ضد محاولة الولايات المتحدة الهيمنة على المنطقة، وبالتالى عدم تصديق الادعاءات الأمريكية وكذلك الإسرائيلية، بأنها تريد بهم شرا وأنها توظف الأقليات الشيعية العربية للتمرد على الأنظمة القائمة. غير أن انتقال الدول العربية من حالة التخوف من الإمكانات النووية الإيرانية إلى حالة التفاهم مع طهران تتطلب العديد من الشروط غير المتوفرة حتى الآن، والتى لا يبدو أن إيران قادرة على توفيرها.
فالعلاقات العربية ــ الإيرانية ليست فى أحسن حال. هناك هوة من عدم الثقة المتبادلة. ومع غياب جهود عربية ــ إيرانية مشتركة لترميم هذه الهوة ولإقامة جسر من التفاهم الموثوق به، تبذل جهود معاكسة لتوسيع هذه الهوة وتعميقها. وتصب هذه الجهود فى خدمة الهدف الاستراتيجى الأمريكى البعيد المدى.
فى العام الماضى نشرت مجلة فورن أفيرز الأمريكية التى تعتبر العقل المنفصل لوزارة الخارجية الأمريكية، دراسة قالت فيها أن العدو الحقيقى للولايات المتحدة ولحلفائها ليس الإسلام الشيعى بل الإسلام السنى. وقدمت الدراسة أمثلة على ذلك من خلال ربط كل من تنظيم القاعدة «بن لادن» وحركة طالبان بالسنّة. وكذلك من خلال إبراز البعد السنى لحماس فى غزة، وسائر حركات التطرف الإسلامى من إندونيسيا حتى نيجيريا.
ودعت الدراسة إلى تحالف أمريكى مع «إيران الشيعية» لاحتواء الخطر «الإرهابى السنّى» والقضاء عليه. وأكدت الدراسة أن للولايات المتحدة مصلحة إستراتيجية فى التحالف مع إيران وليس فى الاختلاف معها.
وفى الأسبوع الماضى نشرت صحيفتا الواشنطن بوست والهيرالد تريبيون مقالة للخبير الإستراتيجى لدى مؤسسة الأبحاث التابعة لسلاح الطيران الأميركى «أدم لوثر» قال فيها «إن للولايات المتحدة مصلحة فى أن تصبح إيران قوة نووية، ذلك أن إيران نووية تشكل خطرا على جيرانها العرب «وليس على الولايات المتحدة»، مما يدفع بهم إلى السعى وراء الحماية الأمريكية». وقال الخبير الإستراتيجى: «إن حاجة العرب للحماية يجعلهم فى متناول اليد الأمريكية لفرض إصلاحات عليهم تقضى على التطرف السنى، وتخضع الثروات النفطية من جديد للسيطرة الأمريكية».
فالقضاء على «التطرف السنى» والهيمنة على النفط العربى أمران متلازمان ويشكلان معا أحد أهم ثوابت الإستراتيجية الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وحتى اليوم. ففى الحسابات الأمريكية التطرف الإسلامى هو تطرف سنى. وهو يتمثل فى العمليات الإرهابية. وأن أموال النفط تموّل وتغذى هذه العمليات ولو بصورة غير مباشرة. ولذلك فان من مستلزمات الأمن الإستراتيجى للولايات المتحدة وحلفائها الإمساك بتلابيب الدول العربية ومجتمعاتها. ومن هنا يبرز توظيف دور إيران التخويفى لدفع هذه الدول إلى الحضن الأمريكى.
وفى الحسابات الأمريكية، فإن هذه العملية تحقق ثلاثة أهداف إستراتيجية لأمريكا:
أولا: دفع الدول العربية لقبول تسوية سياسية مع إسرائيل.
ثانيا: تمكين الولايات المتحدة من فرض تغييرات سياسية واجتماعية وتربوية على المجتمعات العربية بهدف القضاء على ثقافة التطرف وبالتالى على الإرهاب.
ثالثا: تفكيك منظمة أوبك «مشروع الدكتور هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأسبق» لتخفيض أسعار النفط، ومن ثم لقطع الموارد غير المباشرة التى تغذى التطرف والإرهاب فى العالم الإسلامى.
وبالطبع لا تخفى هذه التصورات عن إيران.. ويبدو أنه من أجل ذلك يتعامل قادتها بأعصاب باردة مع التهديدات الأمريكية بفرض المزيد من العقوبات، ومع التهديدات الإسرائيلية بقصف المفاعلات النووية. وبرغم خطورة هذه التهديدات فإنهم يضعونها فى إطار سيناريو لعبة الأمم الجديدة فى المنطقة، بمعنى أنها ليست مقصودة للتنفيذ.
ويدرك المسئولون الإيرانيون أن الولايات المتحدة «ومعها حلف شمال الأطلسى» الغارقة فى الوحول الباكستانية والأفغانية ليست قادرة على تحمل تبعات الغرق فى الوحول الإيرانية فى الوقت الذى تحاول بصعوبة رفع أقدامها من الوحول العراقية.
وهم يدركون أيضا أن إدارة الرئيس باراك أوباما التى تسعى «بتعثر حتى الآن» من أجل تصحيح الصورة الأمريكية فى العالم الإسلامى، لا تتحمل وزر الإمعان فى تشويه هذه الصورة من خلال تورّط عسكرى جديد يستهدف إيران.
من هنا السؤال عما إذا كانت هناك إستراتيجية عربية أو على الأقل مجرد رؤية عربية مشتركة للتعامل مع هذه الاحتمالات ولمواجهتها، بما يصون المصالح القومية من خطرى المساومة والاستباحة؟!