تبديد هواجس انتكاس الثورة...الضرورة والوسيلة
إبراهيم العيسوى
آخر تحديث:
الإثنين 21 فبراير 2011 - 10:18 ص
بتوقيت القاهرة
ثمة اعتباران يدعوان إلى القلق بشأن مسار ثورة 25 يناير، وإلى التوجس من احتمالات الالتفاف عليها. الاعتبار الأول هو الإيقاع البطىء لتصرفات المجلس الأعلى للقوات المسلحة (لاحقا: المجلس العسكرى). صحيح أنه لم يمض على نجاح الثورة سوى أقل من أسبوعين. وهذه مدة قصيرة بمعايير الظروف العادية، ولكنها ليست قصيرة بمعايير الظروف الثورية. ولذا فقد كان من المتوقع أن تتسارع حركة المجلس العسكرى، حتى لا يظل خطر العودة إلى ما قبل 11 فبراير ماثلا.
فلم يكن من الصعب خلال تلك المدة الإفراج عن المعتقلين السياسيين الجدد والقدامى، وعزل أصحاب المواقع القيادية فى عهد مبارك من مناصبهم، وفرض الإقامة الجبرية على الكثيرين من رموز وأعوان العهد السابق، بمن فيهم مبارك وأسرته وذوو قرابتهم وقيادات الحزب الوطنى وأعضاء حكومات رجال الأعمال وكبار المسئولين عن الصحافة والإعلام الحكومى، فضلا عن منع سفرهم إلى الخارج.
ولم يكن من العسير التوسع فى قوائم من يحالون إلى التحقيق للاشتباه فى إثرائهم بوسائل غير مشروعة ونهب أموال الشعب. وكان مما سيدعو لطمأنة الشعب إلغاء قانون الطوارئ الذى لم يحل دون وقوع جرائم إرهابية، ولم يحد من تجارة المخدرات، وإنما وظف لقمع المعارضين، وبدء التحقيقات الموسعة مع من يشتبه فى تسببهم فى قتل وجرح الآلاف من المواطنين، وفى تجنيد البلطجية وأرباب السوابق وأفراد الأمن وإطلاق المساجين الذين عاثوا فى الأرض فسادا، ومحاكمة المسئولين عن الانفلات الأمنى أثناء العملية الثورية.
لاحظ أن العادلى موقوف قيد التحقيق فى وقائع تربح وغسل أموال، وليس لمسئوليته عن العنف المفرط مع المتظاهرين وتخلى جهازه الأمنى عن وظيفته الأساسية وهى حماية الأفراد والممتلكات الخاصة والعامة!، وكان فى وسع المجلس العسكرى البدء فى تطهير جهاز الشرطة وتكليف من يشاء بإعادة هيكلة هذا الجهاز والتخلص من قياداته الفاسدة وأجهزته السيئة السمعة، لاسيما جهاز مباحث أمن الدولة.
ومن بين الخطوات الأخرى التى كان فى وسع المجلس العسكرى اتخاذها حل بؤرة الفساد المسماة زورا وبهتانا بالحزب الوطنى، ومصادرة أمواله لصالح الفئات المحرومة، وتشكيل حكومة تسيير أعمال من أصحاب الكفاءات المستقلين بدلا من استمرار حكومة تنتمى لذلك الحزب وأدى أعضاؤها يمين الولاء أمام مبارك. ولم يكن من الصعب عدم التمسك بالتنازل الذى قدمه مبارك على سبيل كسب رضا الشعب، وهو إجراء تعديلات فى عدد محدود من مواد دستور الديكتاتورية السلطوى، وهو ما رفضه الشعب وأصر على طلب وضع دستور جديد للعهد الديمقراطى المنشود. وأخيرا وليس آخرا، كان من الواجب تعطيل المواد المقيدة للحريات، والإعلان ـ على الأقل ـ عن النية لتشكيل لجان لتنقية هذه القوانين من مظاهر التسلط والوصاية، أو إحلال قوانين جديدة محلها، لاسيما قانون الأحزاب وقانون الجمعيات وما إليها.
أما الاعتبار الثانى الذى يثير المخاوف من انتكاس الثورة أو تحويلها إلى حركة إصلاحية محدودة، الذى يفسر إلى حد ما بطء إيقاع المجلس العسكرى، فهو أيلولة سلطة الحكم لهذا المجلس، وليس لمن أطلقوا شرارة الثورة ومن شاركوا فى صنعها من فئات الشعب المختلفة. ولابد أن نتذكر هنا أن من كلف المجلس العسكرى بإدارة شئون البلاد هو الرئيس المتنحى، وليس صناع الثورة، وأن هذا المجلس يضم من كانوا يدينون بالولاء لمبارك، وأنه لم يدخل على تشكيل المجلس أى تغيير عقب نجاح الثورة فى إسقاط مبارك. ومن المفهوم من ملابسات وقوع الثورة وتطور أحداثها، أن من صنعوا الثورة لم يمتلكوا أدوات الاستيلاء على السلطة، ولم يتح الإيقاع السريع للحركة الثورية تشكيل مجلس قيادة يمكن أن يتسلم الحكم بدلا من المجلس العسكرى. ولكن ما هو غير مفهوم هو انفراد المجلس العسكرى حتى تاريخه بسلطة الحكم، مع الاستعانة بحكومة تسيير أعمال موالية من الأصل لنظام مبارك ومنبثقة عن حزبه، حتى إذا كان أعضاؤها يغيرون جلودهم الآن ويتملقون الثورة التى سخر كبيرهم منها، وهون من أمرها.
فالبديل الأفضل كان مطروحا مبكرا من جانب عدد من المفكرين وذوى الخبرة السياسية، وهو تشكيل مجلس رئاسى مؤقت يضم عددا من ممثلى القوى الوطنية وممثلى الشباب الثائر، فضلا عن ممثلين للقوات المسلحة. والحق أن هذه الصيغة لم تزل جديرة بالتطبيق. فهى تزيح شبهات حكم العسكر الذين اعتادوا العمل فى مؤسسة تقوم على السمع والطاعة، ولا تعرف الممارسة الديمقراطية، ومن ثم لا يمكن الاطمئنان إلى قيادة العسكريين لعملية تحول ديمقراطى بالمعنى الدقيق. كما أن هذه الصيغة ترفع عن المجلس العسكرى الحرج الناشئ عما قد يحتفظ به أعضاؤه من بقية من ولاء قديم لمبارك، وتعفيه من التعرض لضغوط قد يمارسها ـ وربما يمارسها بالفعل الآن ـ مبارك وأعوانه وأذنابه، وهو ما لا يستبعد معه وقوع ثورة مضادة، حتى إذا صاحبها شىء من الترميم للنظام السابق وإقصاء لبعض شخوصه المرفوضة شعبيا. ومما يغذى هذه المخاوف عدم إقدام المجلس العسكرى على فرض الإقامة الجبرية وحظر السفر على مبارك وأسرته والمقربين منه، وعدم طلبه تجميد أموالهم فى الداخل والخارج، وسماحه باستمرار طاقم الرئاسة السابق والحكومة المنتمية للعهد البائد، وعدم حل الحزب الوطنى، وعزوفه عن اتخاذ الإجراءات الأخرى التى أشرت إليها فيما سبق.
وقد يقال: لِمَ إثارة هذه المخاوف إذا كان المجلس العسكرى قد أعلن مبكرا عزمه تسليم مقاليد الأمور سريعا إلى سلطة مدنية؟ ولِمَ التوجس وقد تعجل المجلس الأمور مكتفيا بتعديلات محدودة للدستور تمهيدا لانتخاب رئيس جديد،ثم إجراء انتخابات جديدة لمجلسى الشعب والشورى؟ وفى الواقع إذا كنت قد أخذت على المجلس بطء تحركاته، فإننى آخذ عليه أيضا تعجله فى أمر التعديلات الدستورية وأمر الانتخابات النيابية. فمما يهدد الثورة بأخطار جسيمة أن تبدأ البلاد عهدا جديدا برئيس للجمهورية يملك ذات السلطات المطلقة والشاملة التى كان يحوزها مبارك، وأن تجرى انتخابات سريعة لمجلسى الشعب والشورى فى إطار الدولة الشمولية التى ثار الشعب من أجل الإطاحة بها، ووفق القوائم القديمة للناخبين وتحت هيمنة الأمن، وذلك حتى إذا أعيد الإشراف القضائى على الانتخابات.
ولن يضير البلاد فى شىء أن تمتد الفترة الانتقالية إلى سنة أو أكثر قليلا، وذلك إذا تشكل المجلس الرئاسى المؤقت على النحو المذكور سلفا، وإذا تولى إدارة شئون البلاد بواسطة حكومة تسيير أعمال من أصحاب الكفاءات المستقلين، وإذا سارع هذا المجلس باتخاذ الإجراءات المشار إليها أعلاه. بل إنه يمكن تحقيق مكاسب متعددة تهيئ أجواء مناسبة للممارسة الديمقراطية المنشودة. إذ سوف تتيح الفترة الانتقالية الأطول نسبيا الظروف المناسبة للسير المتزامن فى ثلاثة اتجاهات.
الاتجاه الأول هو إطلاق الحريات والسماح بقيام الأحزاب بمجرد الإخطار، وذلك لإنعاش الحياة السياسية، وإتاحة الفرصة للأحزاب القائمة لإعادة ترتيب أوضاعها أو الدخول فى تحالفات أو إنشاء كيانات حزبية جديدة، فضلا عن إتاحة الفرصة لنشوء أحزاب جديدة تبنى على الحماس للعمل السياسى الذى أنتجته الثورة، وتوفير مهلة كافية للنشاط الجماهيرى للأحزاب الذى طال حرمانها منه.
والاتجاه الثانى هو البدء فى تشكيل جمعية تأسيسية أو لجنة وطنية لوضع دستور جديد يستهدف إقامة جمهورية برلمانية وحكم مدنى، لا دينى ولا عسكرى، يكون الرئيس فيها رمزا للدولة، ويكون مجلس الوزراء ـ الذى يتشكل حسبما تسفر عنه انتخابات نيابية حرة ونزيهة من أوزان للقوى السياسية المختلفة ـ هو من يتولى السلطة الفعلية لإدارة شئون البلاد، ويكون قابلا للمساءلة عن تصرفاته، كما هو الحال ليس فقط فى بلاد متقدمة كبريطانيا، بل وفى بلاد نامية كالهند. وأود هنا أن أقدم اقتراحا أراه مفيدا كل الفائدة، وموفرا للجهد والوقت والمال، وهو الاكتفاء بمجلس نيابى واحد، وهو مجلس الشعب، وإلغاء مجلس الشورى، واعتماد مبدأ أساسى، ألا وهو أن «لا نيابة عن الشعب إلا بالانتخاب».
ولذا فبدلا من أسلوب التعيين فى مجلس الشعب بدعوى تدعيم المجلس بالكفاءات وتحسين تمثيل الأقباط، وبدلا من «الكوته» لرفع نسبة النساء، يمكن أن يشتمل مجلس الشعب على نواب من الدوائر الحالية (بعد تدقيق تعريف العامل والفلاح تفاديا لتلاعب المرشحين بصفاتهم)، ويضاف إليهم نواب من أصحاب الكفاءات تختارهم بالانتخاب الجمعيات العمومية لكل من النقابات المهنية ونوادى أعضاء هيئة التدريس بالجامعات ونوادى القضاة ومن إليهم. وانتخاب عدد من أصحاب الكفاءات على هذا النحو ليس بدعة، فقد عرف السودان نظاما قريبا منه، وذلك فى إطار ما كان يطلق عليه: دوائر الخريجين. أما عن حسن تمثيل الأقباط والمرأة فى مجلس الشعب، فذلك أمر يمكن أن تتكفل به القوائم الانتخابية مع التحول إلى النظام الجديد للانتخابات الذى يلقى قبولا متزايدا فى ضوء التجارب المأساوية لنظام الانتخاب الفردى، ألا وهو نظام الانتخاب وفق القوائم النسبية غير المشروطة. وفضلا عن ذلك، وطالما أن منصب رئيس الجمهورية هو منصب رمزى وشرفى فى الجمهورية البرلمانية المنشودة، فمن الممكن أن ينتخب مباشرة بواسطة مجلس الشعب. وطبقا لهذا التصور، سوف يكتفى بعملية انتخابية واحدة، وهى انتخاب مجلس الشعب، بدلا من ثلاث عمليات.
أما الاتجاه الثالث فهو يتضمن إعداد كشوف جديدة للناخبين على أساس قاعدة معلومات الرقم القومى، وذلك تمهيدا للإدلاء بالأصوات بمقتضى بطاقة الرقم القومى، فى ظل إشراف قضائى كامل. كما يتضمن هذا الاتجاه إعادة تشكيل اللجنة العليا للانتخابات، وإعادة تحديد اختصاصاتها، وتزويدها بالصلاحيات والموارد البشرية والمالية الكافية لممارسة جميع خطوات العملية الانتخابية بدءا من إعداد الجداول وانتهاء بإعلان النتائج، مع انتداب أفراد من الشرطة لحفظ النظام والأمن خلال العملية الانتخابية، وخضوعهم خلال فترة الانتداب لسلطة اللجنة العليا للانتخابات.
وسوف يحسن المجلس الرئاسى صنعا إذا ما أعلن خلال فترة وجيزة بعد تشكيله عن برنامج عمل يتضمن ما سبقت الإشارة إليه من خطوات وإجراءات، وربطها بمواقيت محددة. وهذه هى الوسيلة اللازمة لتحقيق أمر ضرورى وهو تدعيم الثقة بين الثوار وعموم الشعب من جهة، وبين سلطة الحكم خلال الفترة الانتقالية من جهة أخرى، وتبديد الهواجس بشأن احتمال انحراف الثورة عن مسارها السليم، وطمأنة الناس إلى أن النظام السياسى القديم ينهار فعلا، وأننا بصدد إنشاء نظام جديد حقا يفتح الطريق أمام تحقيق التطلعات المشروعة لمختلف فئات الشعب، ويفى بما حرموا منه طويلا من حقوق اقتصادية واجتماعية. ومع ذلك، يبقى الضامن الأساسى لتحرك الثورة صوب تحقيق أهدافها هو صمود الثوار وإصرار الشعب على نيل المطالب التى ثار من أجلها، وتمسكه بحقه فى ممارسة مختلف أدوات الضغط المشروعة على سلطة الحكم للحيلولة دون انحرافها عن الطريق القويم.