أراك قريبا يا بهية
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الخميس 21 فبراير 2019 - 12:00 ص
بتوقيت القاهرة
أن يحيط بك الضجيج فيخترق رأسك ويختفى الجدار الفاصل بين ما يحدث فى الخارج وفى الداخل. أن يمتد ذهنك إلى الأفق فتشعر بأن ما فى رأسك هو مساحة مفرودة لا نهاية لها. أن تتزاحم الصور والأصوات والقصص والذكريات فى لحظة تشعر وكأن قطارا قد داهم فضاءك ومشى فوقك. فجأة أصبحت ممددا على شريط القطار الحديدى، وجهك للسماء تتأمل زرقتها بينما تحاول أن تستوعب ما حدث للتو.
***
أنا أتنفس، إذا ما زلت هنا. لن أتحرك، أو ربما أحرك أطرافى فقط لأتأكد من أنها هى الأخرى ما زالت موجودة، معلقة بجسدى. أحرك رأسى قليلا فأرى المدينة. أبدأ بسماع الأصوات من حولى، من سيارات وناس وباعة متجولين. أيعقل أن يكون كل شىء على ما هو عليه، وأن الفضاء كما هو، اللهم سوى القطار الذى مر من فوقى منذ لحظات فألصقنى بالشريط؟ لكنى ما زلت أتنفس وأحرك رأسى وأطرافى، ربما باستطاعتى أن أجلس ثم أنهض.
***
أقف على الشريط وأرى آخر عربة فى القطار الذى مر من هنا منذ دقائق. المدينة هى القاهرة، الفترة هى السنوات الأخيرة، الشعور العام مزيج عجيب من الاضطراب والرضا. عربة فيها وجوه كثيرة، قديمة وجديدة، بعضها انتقل من عربات سابقة وبعضها انضم إلى العربة حديثا. فى العربة أيضا وجه ابنتى، فقد لحقت بالقطار خلال المحطة القاهرية. لماذا أقف خارج العربة؟ ألست معهم هناك؟ لماذا أنزلونى وأكملوا الطريق؟
***
فى المسرحية السورية القديمة «غربة»، كان «أبوريشة» شخص يجلس طوال فترة المسرحية على شنطة سفر ينتظر أن تتوقف إحدى الطائرات لالتقاطه. يبقى هادئا، دون أى علامة للتوتر، فهو واثق أنه سيذهب إلى مكان جديد فى مرحلة ما، لا يهمه مضى الوقت لأنه أعد نفسه للسفر. أغار من أبوريشة ومن هدوء أعصابه، وأنا على أعتاب تغيير كبير سوف يرمينى وعائلتى فى مدينة جديدة. أنا لست مثل أبوريشة، أنا شخص ممدد على شريط القطار أعرف أننى ما زلت هنا لكنى على وشك أن أكون هناك.
يا أبوريشة، ماذا أخذت معك فى الشنطة؟ أنا آخذ معى ليالى لا تنتهى من لقاءات الأصدقاء، ساعات طويلة من الأحاديث العامة والخاصة، دقائق يومية من الصمت والتأمل فى مدينة يصعب الصمت فيها. منظر مدينة يشقها النيل إلى قسمين حين أقف على جسر على طرفيه أسود. كوبرى قصر النيل يصالحنى مع القاهرة بعد كل احتدام بيننا. حين أقف هناك يختفى كل ما فى قلبى من غضب، فمنظر المراكب الصغيرة تحت الجسر تأخذ معها حزنى حين تمر وترميه فى مكان بعيد. أسير على قدمى فوق الجسر وأبتسم دون سبب للمشاة. يعطينى أحدهم هاتفه لأصوره مع صديقة أو صديق فأصوره أيضا بعينى وأتذكر اليوم ملامحه، كيف لا وأنا جزء من لحظته حتى لو أنى خلف الكاميرا ولن أراه فى حياتى مرة أخرى؟
***
فى شنطتى سنوات أولادى فى المدرسة، وصباحات ومساءات أمضيها معهم، لماذا يبدو علينا الاستعجال دوما؟ أنا أستعجلهم فى الصباح وفى المساء، أستعجلهم بعد الظهر وقبل النوم، أستعجلهم وكأننى ذلك القطار الذى مشى فوقى. فى شنطتى مناسبات عائلية اختلطت لقطاتها على، لكن فيها وجوه والدى وأخى، فيها لمحات لشموع نطفئها وأخرى انطفأت فجمعنا حزننا على رحيل أصحابها. فى شنطتى صكوك لصداقات لا يمكن فكها بعد اليوم، بعد ما عشناه معا فى السنوات الأخيرة، هى سنوات كانت كفيلة، بالنسبة لى، بوضع أختام من الشمع على بعض العلاقات، والتيقن من صلابة علاقات أخرى.
***
أخرج على الطريق قبل أن يأتى قطار آخر، أسمعه من بعيد لكنى لا أريد أن يمشى فوقى. سوف يتوقف أمامى لأصعد فى عربته ممسكة بشنطتى. ألقى نظرة أخيرة على ما حولى وقد بدأت الشمس رحلة غروبها، الألوان تميل إلى الحمرة وكذلك الكلمات التى ألتقطها من المارة فوق كوبرى قصر النيل. أحبك، أهمس فى أذن المدينة فتطير كلمتى فى الهواء كالفراشة وتقف على مركب تحت الجسر. أنا فعلا أحب القاهرة واخترتها بيتا لى، بيتا أضجر منه أحيانا فأتركه لكنى أترك بابه مفتوحا، مواربا، يسمح بدخول نغمات من مطبخ بيت الجيران، بينما تداعب رائحة طبخهم أنفى.
ها أنا الآن على درج العربة أستعد لدخول القطار، أدير وجهى لآخذ معى المدينة بأسرها مرة أخيرة، بانوراما أعرف أننى سأعلقه على جدار قلبى فى مكانى الجديد. أدخل لكنى لا أرى المسافرين الآخرين. لن أتحدث معهم الآن، لا أريد أصواتا جديدة ولا أريد حتى قصصا، أريد أن أجلس فى مقعد قرب الشباك أراقب شوارعى المفضلة وهى تمر أمامى بسرعة. دقائق وسوف تختفى حين يسدل الليل ستائره على وعلى كل ما حولى. أحسن، لا أريد أن أرى خروجى من المدينة. لتبقى إذا دقائقى الأخيرة مع القاهرة دقائق لونها برتقالى كالشمس التى ودعتها وودعتنى للتو، وليبقى آخر ما رأيته فيها هو ابتسامة رجل لا أعرفه إنما لمعت عيناه وأسنانه لحظة الغروب فبدى تماما كما تصور دعايات السياحة مصر. حتى أراك قريبا يا بهية.