10 سنوات على... «ثورات»
سمير العيطة
آخر تحديث:
الأحد 21 فبراير 2021 - 7:15 م
بتوقيت القاهرة
عشر سنواتٍ مضت على انطلاق انتفاضات قام بها أصلا شبابٌ ثاروا تحت عنوان أمل الكرامة والحرية... وعشر سنوات زمنٌ طويل حل خلاله، بقدرٍ كبير، جيل شبابٍ جديد محل «الشباب الثائر»... جيلٌ جديد لم يعرِف عمليا من واقع ما قبل الانتفاضات سوى ما يرويه له هذا وذاك، من المنتفضين والثائرين القدامى كما أولئك الأكبر سنا...
بالتأكيد الكرامة والحرية تستحقان الثورة من أجلهما... لكن أقسى تعبير عن حصيلة السنوات العشر ليس فقط أن «الربيع العربى» جنح إلى حروبٍ أهلية بالوكالة عن قوى نفوذ ودمارِ سبل الحياة كما دمار النفوس، وأن استبدادا وفسادا أكبر حل مكان ما انتفض الشباب للإطاحة به. ولعل المثال الأكثر قسوة وإيلاما أن أسرة البوعزيزى الذى أطلق بتضحيته شرارة الانتفاضة التونسية التى انتشرت عربيا... هاجرت فى النهاية إلى كندا بحثا عن الكرامة هناك، رغم أن تونس حصلت على أكبر قدرٍ من الحريات الملموسة دون ثمنٍ باهظٍ من الدم. هذا ناهيك عن أن البلدان العربية أضحت أكثر ضعفا وشرذمة من أى وقتٍ مضى ودخلت حروبا غير مسبوقة فيما بينها وتخلت عن أساس هويتها... قضية فلسطين والفلسطينيين.
هذه الحصيلة القاسية لا تعنى أن «الربيع العربى» نتج عن مؤامرة، بل كان حتمية اجتماعية أنتجها انسداد الأفق. هذا حتى لو استخدمها من تآمر لأهدافٍ خاصة به. إن هذه الحصيلة القاسية تستحق أن تواجه بواقعها المر، ليس بمنطق مراجعة بدايات الانتفاضات ومسارات «الثوار» بعد ذلك... فهذا سيُترَك للمؤرخين كى يحكموا يوما مَن دافع حقا عن «ثورة» بهدف قيمها ومن انخرط فى مسارٍ سد أفقها فى الحقيقة؟ وربما ما زال...
***
يكمُن جوهر المراجعة فيما يجب فعله اليوم وفى ظل واقع اليوم. مراجعةٌ كى يكون مآل شباب اليوم أفضل حتى لو بعد عشر سنين من الآن، حرية وكرامة. ومع الإصرار أنه لا يُمكِن حقا اختزال الكرامة والحرية بحرية التعبير والإعلام وبغياب القمع التعسفى. فهذا لبنان الذى تمتع منذ عقودٍ بأعلى قدرٍ منهما ومن «الديموقراطية» يغرق فى انهيارٍ اقتصادى لا سابق له عالميا. «النخب الديموقراطية» اللبنانية نهبت البلاد قبل حربه الأهلية وأثناءها وبعدها، وأبقت على منظومة تأطيرٍ طائفى لشعبٍ ابتعدت عنه أسس دولة تقدِر ولو بالحد الأدنى أن تكون مؤسسة تحمى المساواة فى المواطنة وفوق الطوائف. لم يتأخر حدوث الانهيار الحالى إلا بدافع أن أغلب اللبنانيين قد هاجروا، والمغتربون مولوا خلال عقودٍ استمرارية العبث بلبنان... ومن جميع الأطراف. من هنا تأتى بالتحديد المطالبة اليوم... باقتصاد ودولة للبنان.
لا يُمكن ضمان الحرية والكرامة إلا عبر دولةٍ قادرة، أى مجموعة مؤسسات تأخذ موقفا محايدا من جميع المواطنين، ومن جميع القوى الاقتصادية والاجتماعية، دفاعا عن مصلحة عامة فى حين لا تتواجد فى الواقع سوى مصالح خاصة، فردية أو لمجموعات، داخليا أو من الخارج. ولا يُمكن نهوض دولة قادرة فى ظل هيمنة سلطة عائلة أو «أمراء طوائف» على مقاديرها، ولا تُمكن استدامتها فى ظل «حزبٍ معين» أو «مؤسسة عسكرية» أو «مجموعات اقتصادية» مهما كانت مساهمتهم فى إنشائها.
الإشكالية الكبيرة فى الثورات وفى مراحل التغيير الكبرى تكمُن فى التمييز بين هذه الدولة كمؤسسة وبين السلطة المهيمنة عليها، وبالتالى فى طريقة التعامل مع مؤسسات الدولة، «سقطت» السلطة أم لم تسقط. المثال العراقى بليغ بهذا الصدد حيث أدى غزوه إلى سقوط السلطة، إلا أنه تمت تصفية مؤسسات الدولة التى أعلنت واقعيا ولاءها للاحتلال. ما أدى إلى كارثة ابتدأت بحربٍ أهلية دامية وانتهت بداعش وفوضى وهيمنة مستمرة لأطرافٍ خارجية. وها هو مثال ثورة تونس الأقل عنفا التى استفادت منها الأحزاب السياسية، وبعضها مدعومٌ ماليا من الخارج، فى إنهاك الدولة عبر مأسسة تقاسم التوظيف بينها كى تسير تونس فى مسار... لبنان. فى حين تقاسم «أمراء» ما بعد سقوط القذافى ليس فقط مناطق ليبيا وإنما أيضا مؤسسات دولتها الثرية. وأخذت حرب اليمن إلى تقسيم الدولة إلى دولتين وربما إلى ثلاث.
الصراع فى سوريا وعليها أخذ إلى أبعد من ذلك. لقد أُنهِكَت الدولة السورية عبر قمع السلطة لمؤسساتها وعناصرها، ثم تفاقم إنهاكها عبر الحرب والعقوبات الخارجية. وأنشأت «المعارضة» «حكومة مؤقتة» ولدت وانتهت صورية، لا باع لها حتى على المناطق «المحررة». كما أنشأت «قوات سورية الديموقراطية» «إدارة ذاتية» لمناطقها. وبدورها أقامت «هيئة تحرير الشام» بالمقابل «حكومة إنقاذ» على المناطق التى تهيمن عليها. هذه «الدول» أو «شبه الدول» الأربع تدعى أن شرعيتها مبنية على انتخابات شعبية، وبعضها انطلاقا من مؤسسات تشريعية محلية، مجالس محلية أو «كومونات». ولكن الانتخابات لدى جميعها من صنع السلطة المهيمنة و«أمراء الحرب»، «تزكية» ولا منافسة فيها على برامج أو أفكار. ما يطرح التساؤل عن درجة حرصها جميعها على... مصلحة عامة.
***
يستحق هذا الواقع اهتمام ثوار «الأمس» لتلمس الموقف الذى يُمكن أن يؤسس اليوم لحرية وكرامة فى المستقبل؟ خاصة ثوار «الأمس» السوريون الذين أضحى أغلبهم خارج البلاد وبعيدا عن مناطق السيطرة الأربع. ما هى الأولوية اليوم؟ أهى إعادة توحيد البلاد أم إسقاط إحدى السلطات القائمة أو جميعها؟ وكيف؟ هل هو البحث عن إعادة النهوض بالدولة، بمؤسساتها المركزية كما المحلية، وعزلها عن الهيمنات القائمة أم الوصول إلى السلطة بغية التغيير؟ وكيف يجب التعامل مع المؤسسات الأمنية والعسكرية القائمة أو تلك التى قامت خلال تحولات السنين العشر الماضية، خاصة وأنها هى التى تملك القوة الفعلية على الأرض؟
ليست الإجابات على هذه الأسئلة سهلة. لا فى سوريا ولا فى غيرها. وزمن التحولات التى يُمكن أن تأخذ إليها أبطأ بكثير من زمن الإعلام الذى يهتم عبورا بحدث أو فكرة ثم يذهب سريعا إلى غيرهما.
وربما أن أحد مفاتيح الإجابة قد تكمُن فى وعى شباب اليوم واقعهم بشكلٍ مختلف عن «ثوار الأمس». وأن فكرة أو مشروعا يُطرحا اليوم قد يعبرا مجالهما ويجدا فعلهما رويدا وريدا لأنهما يمثلان طموحاتهم وأملا فى مستقبلٍ أفضل. الأفق المسدود اليوم ليس ذاته ذلك الذى أدى إلى ثورات «الربيع العربى». وربما تعلم شباب اليوم دروسا لعل أهمها أن الحرية والكرامة لا تأتيان بلحظة وإنما تتطلبان نضالا دءوبا وقراءة صحيحة للواقع.
تقول دروس التاريخ إن الثورة الفرنسية سميت واقعيا «ثورة» لأنها أنتجت «إعلان حقوق الإنسان والمواطنة»... وهذا لا يلغى واقع أن ثوارها قد تصارعوا إلى أن أتى حاكمٌ عسكرى أرسى دولة قادرة ثم انهزم ورحل... ولا ننسى أن الحكم الملكى قد عاد... ثم توالت الانتفاضات حتى ثبت القانون رويدا رويدا الحرية والكرامة... فى ظل دولة حَمَت سيادة القانون فى أغلب مراحلها. هكذا أضحى «إعلان حقوق الإنسان والمواطنة» عالميا.