هيكل وسؤاله الدائم: إيه الأخبار؟
عماد الدين حسين
آخر تحديث:
الجمعة 21 فبراير 2025 - 7:10 م
بتوقيت القاهرة
ما الذى جعل محمد حسنين هيكل أهم صحفى مصرى وعربى، وما الذى جعله حاضرا فى المشهد الصحفى والسياسى حتى هذه اللحظة رغم وفاته فى ١٧ فبراير ٢٠١٦، ورغم أنه لم يكن يتبوأ أى منصب رسمى منذ الأول من فبراير ١٩٧٤، حينما اختلف مع الرئيس الأسبق محمد أنور السادات وترك رئاسة تحرير جريدة «الأهرام؟».
للإجابة عن هذا السؤال نقول إن كثيرا من الكتاب ذكروا أسبابا منطقية متعددة، واليوم سأركز على زاوية محددة، أرى أنها كانت أحد أهم أسباب محافظة «الأستاذ» على تفوقه الدائم. هذه الزاوية هى حرصه الدائم على امتلاك أحدث الأخبار والمعلومات والبيانات.
أى صحفى مهما كانت بلاغته وإبداعه اللفظى والفنى والشعرى وقدرته على الصياغة لا يمكن أن يصمد ويتقدم ويتفوق من دون أن يكون لديه معلومات حديثة وطازجة عن المجال الذى يكتب ويتخصص فيه.
أكتب عن هذه الزاوية اليوم، ليس فقط تذكيرا واحتفاء بقيمة الأستاذ الكبير فى ذكرى رحيله، لكن كدرس مهم لكل الزملاء الصحفيين الشباب، ولكل من يريد أن يكون صحفيا وإعلاميا نابها.
من سوء الحظ أن عددا كبيرا من الأجيال الجديدة من الصحفيين لا يدركون أهمية امتلاك المعلومات الحديثة. وبعضهم يعتقد أن مهنة الصحفى تحتاج فقط إلى حسن المظهر واتباع البروتوكول ورص الكلام المنمق الخالى من أى معلومة..
أتذكر أن الأستاذ هيكل اتصل بى وسألنى بكل أدب وتواضع: هل يمكن أن تمر علىّ غدا فى التاسعة صباحا فى مكتبى بالدقى؟!
وقبل الموعد بخمس دقائق كنت داخل المصعد فى العمارة القريبة من بيت الرئيس الأسبق أنور السادات بالجيزة.
يومها سألنى قائلا: عرفت أنك التقيت أنت ومجموعة من رؤساء التحرير بأحد كبار المسئولين وأن الحديث لم يكن للنشر، فهل يمكن أن تطلعنى على مضمون ما دار؟
حكيت للأستاذ عن فحوى اللقاء خبريا، ثم سألنى عن تقييمى.
يومها حصلت على أفضل تقدير من «الأستاذ» حينما قال لى: «أشكرك على أمانتك فى العرض، وأنك لم تخلط رأيك بالأخبار والمعلومات، وهو الأمر الذى لم أجده من بعض ممن سألتهم وكانوا حاضرين اللقاء».
أسعدنى الحظ كثيرا بعد ذلك وقابلت الأستاذ هيكل مع المهندس إبراهيم المعلم، أو فى الاحتفال بعيد ميلاده فى ٢٣ من سبتمبر أو حينما يطلبنى للسؤال عن أمر ما.
كل من عرفوا الأستاذ هيكل فإن سؤاله الأساسى لكل من يقابله هو «إيه الأخبار؟».
فى هذا اليوم رأيت النوتة الصغيرة الموجودة على مكتبه، وفيها تاريخ اليوم واسم الضيف، وفى المضمون تدوين للملاحظات التى يسجلها الأستاذ عن كلام الضيف أو الزائر. وهكذا أدركت يومها كيف يمكن للأستاذ أن يعود ويسترجع ويتذكر بسهولة أنه قابل فلان الفلانى يوم كذا، وأن الحديث دار عن كذا وكذا، بل واسترجاع مقولات محددة، مع إضافات عن خلفيته.
فى مرة أخرى رأيت وأنا صاعد للأستاذ فى الدورالرابع مسئول مهم يغادر، وحينما غادرت رأيت كاتبا كبيرا يصعد، وهو المشهد الذى رأيته مرارا وتكرارا فيما بعد.
وهكذا فإن هيكل ومن خلال مقابلاته المتنوعة فى مكتبه بالدقى أو فى برقاش من الرؤساء والأمراء والسياسيين والمفكرين والصحفيين والأدباء المصريين والعرب والأجانب كان يجمع حصيلة ضخمة من الأخبار والملاحظات والبيانات والأفكار، وبالتالى ومع أسلوبه السلس والفذ وكتابته الرشيقة التى تمزج بين المعلومة الجديدة والصياغة الادبية كان يقدم لنا هذه الوجبة الدسمة سواء عبر الكتابات الصحفية أو الكتب أو اللقاءات التليفزيونية.
قلة من الناس اختلفت مع هيكل فى منهجه وأفكاره، بموضوعية، وكثيرون هاجموه بأساليب وضيعة ظنا أن ذلك سيجعل لهم قيمة، لكنهم تلاشوا، وبقى هيكل رغم رحيله.
الآن وعلى منصات التواصل الاجتماعى يتشارك كثيرون فيديوهات قصيرة لهيكل من حواراته التليفزيونية خصوصا مع لميس الحديدى على «سى. بى. سى» أو فى قناة «الجزيرة»، ومن يشاهد هذه الفيديوهات يظن أن هيكل قد قالها اليوم أو أمس بسبب عمق تحليله ورؤيته.
هيكل ترك لنا دروسا كثيرة، أهمها على الإطلاق أن الفارق الأساسى بين الصحفى الجديد وغير الجيد هو المعلومات الخاصة عن أى حدث، ونقلا عن المصادر الأساسية وليس «عبر النميمة وثرثرات المقاهى والنقل من صحف ومواقع أخرى وسرقة جهود آخرين».
نحتاج جميعا أن نبذل جهودا مستمرة من أجل نقل هذه القواعد والقيم إلى الصحفيين الشبان، فالوظيفة الأساسية لمهنة الصحافة هى «الأخبار».
رحم الله الأستاذ هيكل.