القيادة المخمورة فى القدس
توماس فريدمان
آخر تحديث:
الأحد 21 مارس 2010 - 10:20 ص
بتوقيت القاهرة
أنا من أشد المعجبين بنائب الرئيس جون بايدن. فهو يدافع بلا كلل عن مصالح الولايات المتحدة فى الخارج دائما، ومنذ أن كان عضوا فى الكونجرس.
ولذلك يؤلمنى ما سأقوله حول رحلته الأخيرة لإسرائيل. فعندما أقحمت عليه حكومة رئيس الوزاء بنيامين نتنياهو بعض الخطط لبناء مساكن جديدة فى القدس الشرقية المتنازع عليها، أضاع نائب الرئيس فرصة إرسال إشارة علنية قوية ؛ فقد كان عليه أن يجمع أوراقه بحدة، ويتوجه مباشرة صوب الطائرة المخصصة لنائب الرئيس، ويعود إلى الوطن تاركا هذه الملحوظة المكتوبة على عجالة وراءه: «رسالة من أمريكا إلى حكومة إسرائيل: الأصدقاء لا يسمحون لأصدقائهم بقيادة سياراتهم وهم مخمورون.. وها أنتم الآن تقودون وأنتم مخمورون.. فهل تظنون أن بإمكانكم إحراج حليفكم الحقيقى الوحيد فى العالم، من أجل إرضاء حاجة سياسية محلية ما، دون أن تترتب على ذلك أية عواقب؟ لقد فقدتم الاتصال تماما بالواقع.. اتصلوا بنا عندما تكونون جادين.. فنحن راغبون فى التركيز على بناء بلدنا فى الوقت الحاضر».
أرى أن هذا ــ وليس الغضب والتصالح ــ كان سيبعث برسالة مفيدة لسببين. السبب الأول: أن ما فعله الإسرائيليون، بحق، إزاء السؤال الذى يلح على كثيرين بشأن فريق أوباما : ما مدى صلابة هؤلاء الرجال؟ فآخر ما يحتاج إليه الرئيس، فى وقت يواجه فيه إيران والصين ــ ناهيك عن الكونجرس ــ أن يبدو الأمر وكأن الحليف الذى تعتمد عليه أمريكا أشد ما يكون يعاملها بقسوة وعدم احترام.
ثانيا: إسرائيل فى حاجة إلى من ينبهها ويفيقها من أوهامها. إذ إنه يعد جنونا محضا أن تواصل إسرائيل بناء المستوطنات فى الضفة الغربية، وبناء المساكن فى القدس الشرقية المتنازع عليها. وقد وافق ياسر عرفات على أنه حتى بدخول الضواحى اليهودية هناك تحت السيادة الإسرائيلية فى أية اتفاقية سلام، فسوف تكون الأجزاء العربية فى القدس الغربية أيضا عاصمة لفلسطين. ويثير اعتزام إسرائيل التوسع فى بناء المساكن الآن تساؤلا حول مدى استعداد إسرائيل فى أى وقت من الأوقات للتسليم بعاصمة فلسطينية فى الأحياء العربية بالقدس الغربية ــ وهذه مشكلة كبيرة.
لقد قضمت إسرائيل بالفعل الكثير من أراضى الضفة الغربية. وإذا ما أرادت أن تظل دولة ديمقراطية يهودية، لا بد من أن تكون أولويتها الوحيدة الآن التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين يتيح لها مبادلة الكتل الاستيطانية التى يحتلها اليهود فى الضفة الغربية مقابل إعطاء مساحة مساوية من الأرض فى إسرائيل للفلسطينيين، ومن ثم جنى الفوائد ــ الاقتصادية والأمنية ــ الناتجة عن انتهاء الصراع.
ولسوء الحظ، لم يكن هذا ما حدث فى الأسبوع الماضى. فقد كان جورج ميتشل، المبعوث الامريكى الخاص فى الشرق الأوسط، يحاول خلال التسعة أشهر الماضية إيجاد طريق ما للوصول إلى عقد أى نوع من محادثات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. والفلسطينيون لا يثقون فى نتنياهو، ونتنياهو لديه شكوك قوية بشأن قدرة القيادة الفلسطينية المنقسمة على الوفاء بما تقول.
ومع ذلك، تمكن ميتشل فى نهاية المطاف من اقناع الجانبين بالموافقة على «محادثات غير مباشرة» ــ فسوف يجلس الفلسطينيون فى رام الله والإسرائيليون فى القدس، وينتقل ميتشل بينهما ذهابا وإيابا فى ثلاثين دقيقة. وبعد عشرة أعوام من المحادثات المباشرة، يعبر ذلك عن مدى التراجع.
ثم توصل مساعدو ميتشل ونتنياهو إلى اتفاق غير رسمى: إذا ما توصلت أمريكا إلى إجراء المحادثات، فلن يكون هناك أى تصريح بالبناء فى الضفة الغربية، ولا أى شىء يحرج الفلسطينيين ويدفعهم إلى الهروب. وقال مسئولون أمريكيون إن نتنياهو وافق، ولكنه أوضح إنه لا يستطيع الالتزام بأى شىء علنا.
فماذا حدث إذن؟ وصل بايدن فى اليوم التالى لبداية المحادثات غير المباشرة، وصدر تصريح عن وزارة الداخلية الإسرائيلية بأن إسرائيل وافقت لتوها على خطط لبناء 1600 وحدة سكنية جديدة فى القدس الغربية العربية.
وقال نتنياهو إنه كان مصدوما.. وربما يكون هذا صحيحا بالمعنى الضيق. فيبدو أن الخطوة جاءت كجزء من تنافس اثنين من الوزراء السفارديم فى جناح نتنياهو اليمينى من حزب شاس الدينى على من يكون البطل الأكبر فى بناء منازل لليهود السفارديم الأرثوذكس. إنه مقياس لمدى تعامل إسرائيل مع دعمنا على أنه أمر مفروغ منه، ومدى بعد الجناج الدينى اليمينى عن الحاجات الاستراتيجية الأمريكية.
ونقل عن بايدن ــ الصديق الحقيقى لإسرائيل ــ أنه قال لمحاوريه الإسرائيليين: «ما تفعلوه هنا يقوض أمن قواتنا التى تحارب فى العراق وأفغانستان وباكستان.. وهذا يعرضنا للخطر، كما يعرض السلام الإقليمى أيضا».
هذه المشاحنات كلها تلهينا أيضا عن إمكانات هذ اللحظة: فلن يستطيع سوى رئيس وزراء من الجناح اليمينى، مثل نتنياهو، عقد اتفاق حول الضفة الغربية؛ فقد ساعدت سياسات نتنياهو الفعلية هناك على الأرض على تنمية الفلسطينيين لاقتصادهم وتمكنهم من إيجاد قوات أمن جديدة خاصة بهم، وهى التى تعمل مع الجيش الإسرائيلى لمنع الإرهاب، فالزعيمان الفلسطينيان محمود عباس وسلام فياض مخلصان وجادان فيما يتعلق بالعمل باتجاه الحل، إلى أقصى حد يمكن أن تأمل فيه إسرائيل؛ وأوقفت حماس هجماتها على إسرائيل من غزة، إلى جانب تسلط هاجس التهديد الإيرانى على السنة العرب واستعدادهم للعمل مع إسرائيل فى أعلى مستوى له، ويتمثل أفضل أسلوب لعزل إيران فى سحب بطاقة الصراع الفلسطينين من يدها.
خلاصة القول، ربما تكون هناك فرصة حقيقية ــ إذا ما اختار نتنياهو اغتنامها. إذ يحتاج القائد الإسرائيلى إلى أن يحزم أمره بشأن ما إذا كان يريد صنع التاريخ، أم يريد يصبح مرة أخرى مجرد حاشية له.