استنفار أوكرانى للمواجهة الروسية ــ الأطلسية

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 21 مارس 2022 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

مع دخول الغزو الروسى لأوكرانيا أسبوعه الخامس، يتسع تدريجيا نطاق العمليات العسكرية، ويتنوع بنك أهدافها، ليطال الشطر الغربى الأوكرانى. بالتزامن، يمضى الحلف الأطلسى قدما فى ترسيخ تموضعه الجيواستراتيجى بدوله المتاخمة لأوكرانيا، وتعزيز بنيته العسكرية، وتكثيف دعمه العسكرى النوعى لكييف. الأمر الذى يرفع منسوب القلق من تجاوز الحرب حدود أوكرانيا واقتحام خطوط التماس الروسية ــ الأطلسية، ما ينذر بانزلاق الأمور إلى غياهب الصدام بين موسكو والناتو، إن عمدا، أو بغير قصد، أو حتى بجريرة خطأ فى الحسابات، تحت وطأة ضبابية قواعد الاشتباك، وهلامية الخطوط الحمر.
من احتمالية استهداف روسيا مواقع بدول الناتو القريبين منها كبولندا، وبلغاريا، والتشيك، ورومانيا، وسلوفاكيا، وإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، تتعاظم المخاوف الغربية. فقبل قليل، سقطت مٌسيرتان سوفيتتا الصنع فى كرواتيا ورومانيا. ثم جاء القصف الروسى لأربعة أهداف عسكرية أوكرانية قرب الحدود البولندية، هى: قاعدة «لاتسك» الجوية، وقاعدة «يافوريف»، التى يستخدمها الناتو لتدريب القوات الأوكرانية وإمدادها بالسلاح والمقاتلين، ومطار «إيفانو»، ومطار لفيف. وعلى وقع تنامى الاستياء الروسى من انتشار مقاتلين من دول أطلسية بين صفوف الجيش الأوكرانى، تعاقبت تهديدات الكريملين للغرب باستهداف المطارات التى تنطلق منها مقاتلات أو مٌسيرات تهاجم القوات الروسية، وكذا قوافل الدعم العسكرى الغربى المتنوع لأوكرانيا، عبر حدودها مع بولندا ورومانيا وسلوفاكيا، مؤكدا عدم سماح موسكو بنقل سلوفاكيا نظام الدفاع الصاروخى «إس ــ 300» إلى أوكرانيا. وهو ما أثار القلق بشأن التورط المباشر للناتو فى الصراع، إذا ما ضلت الضربات الروسية طريقها لتصيب أهدافا، عسكرية أو مدنية، لدى أعضائه.
ربما تلجأ القوات الأوكرانية إلى التمترس بمناطق تماس حدودية مع دول الناتو، لاستهداف القوات الروسية انطلاقا منها. حينئذ، قد تهرع مقاتلات روسية إلى اختراق المجال الجوى الأطلسى، سواء بطريق الخطأ، أو لملاحقة تلك القوات. وهنالك، سيضطر الحلف للرد، بغية استنقاذ صدقية استراتيجيته الردعية. وليس مستبعدا أن يفضى لجوء روسيا لاستخدام أسلحة دمار شامل تكتيكية، أو استهداف مدفعيتها للمدنيين والبنية التحتية المدنية الأوكرانية، أو قوافل المساعدات الإنسانية، أو قرابة ثلاثة ملايين لاجئ فارين من جحيم المعارك، إلى استدراج الناتو للتدخل، وفرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا.
يظل الحصول على تعهد أطلسى مكتوب بتجميد سياسة «الباب المفتوح»، ووقف تمدد الحلف شرقا، أبرز الضمانات الأمنية التى يصر عليها بوتين، الذى يُحمل الغرب مسئولية التأزم الراهن، بإمعانه فى إذلال موسكو، عبر مواصلة توسيع الناتو لمحاصرتها جيوسياسيا. فضلا عن تقويض حياد أوكرانيا، بتمهيد السبل لضمها إلى الحلف، لتلتحق بخمس دول تطوق روسيا استراتيجيا هى: لاتفيا، وإستونيا، وليتوانيا، وبولندا، والنرويج. الأمر الذى اعتبره كل من السياسى الأمريكى المخضرم، هنرى كيسنجر، ومهندس استراتيجية «الاحتواء» للشيوعية، جورج كينان، إفلاسا سياسيا غربيا، وخطأ استراتيجيا أمريكيا.
أجهز احتلال روسيا للقرم عام 2014، على تفاهمات روسية ــ أطلسية، بدأت عام 1994، بآلية «الشراكة من أجل السلام»، ثم رسختها «الوثيقة التأسيسية» للتعاون الأمنى عام 1997، ومجلس الناتو وروسيا عام 2002. فى المقابل، منح غزو بوتين لأوكرانيا، يوم24 فبراير الفائت، «قبلة الحياة» للناتو، كما حرره من تابوهاته الاستراتيجية حيال شرق أوروبا. فلقد وحَد صفوف الحلف، بعدما أجهض فكرة «الاستقلالية الاستراتيجية» لأوروبا، التى بشر بها الرئيس الفرنسى ماكرون، بدعوته عام 2018 إلى بناء «جيش أوروبى». وساعد على تفعيل البند الرابع من ميثاقه، بشأن التشاور، وأكد التزامه الصارم بالبند الخامس المتعلق بالأمن الجماعى لأعضائه، الذين تعهدوا بتخصيص 2% من ناتجهم المحلى الإجمالى للإنفاق العسكرى عام2024. وللمرة الأولى فى تاريخه، فعَل الحلف «قوة الرد» السريع، وأنعش استراتيجيته التوسعية مع تطلع فنلندا والسويد بالانضمام إليه. وبعدما نشر آلاف الجنود، والأنظمة التسليحية المتطورة بوسط وشرق أوروبا، لتعزيز أمن جناحه الشرقى، قرر تأسيس هياكل عسكرية قيادية هناك.
مبتغيا توسيع شراكاته الخارجية، قبل «مركز التميز للدفاع الإلكترونى التعاونى» التابع للناتو، عضوية أوكرانيا بصفة «شريك مساهم». وأقام الحلف جسرا عبر بولندا وسلوفاكيا لدعمها عسكريا، قدم خلاله الذخيرة والمسيرات، وأنظمة الدفاع الجوى المحمولة، ومنظومات الصواريخ المضادة للدبابات. وفى رسالة تحذيرية لمنع روسيا من تمديد المواجهات خارج أوكرانيا، أجرى الحلف مناورات عسكرية فى لاتفيا، أتبعها بأخرى فى النرويج، كانت الأضخم منذ الحرب الباردة، لاختبار قدرة حارس حدوده الشمالية الأوربية، على استقبال تعزيزات أطلسية، حالة تطبيق البند الخامس. وغدا، يعقد الحلف قمة استثنائية ببروكسيل، لاتخاذ إجراءات ملموسة طويلة المدى، لمؤازرة أوكرانيا، مثل إرسال تعزيزات عسكرية نوعية، ونشر أنظمة دفاع جوى وسيبرانى، لتكثيف الدوريات المتواصلة بمجاله الجوى. وبعدما نقلت واشنطن بطاريات صواريخ «باتريوت» من ألمانيا إلى بولندا وسلوفاكيا، تنتوى تزويد أوكرانيا بمسيرات انتحارية وصواريخ استراتيجية فائقة الدقة.
رغم ما ذكر آنفا، يأبى الطرفان الأطلسى والروسى إلا تجنب المواجهة. فمن جهتها، أكدت موسكو عدم نيتها توسيع نطاق عملياتها فى أوكرانيا، تلافيا للاصطدام بالناتو. وشددت على أن تهديداتها باستهداف قوافل الدعم العسكرى المتدفقة إلى أوكرانيا، تحت حماية عسكرية أطلسية، لا تعنى أن هجماتها، إن تمت، ستتخطى الجانب الأوكرانى من الحدود المشتركة مع دول الناتو.
بدوره، وتزامنا مع تحذيراته للرئيس الروسى من اختبار رد الفعل الغربى على أى هجوم ضد أعضائه المجاورين لأوكرانيا، توالت رسائل الناتو التطمينية لخفض التصعيد مع روسيا. حيث استبعد الحلف نشر قواته فى أوكرانيا، أو صواريخ نووية متوسطة المدى لدى أعضائه، مؤكدا أن روسيا لا تمثل تهديدا وشيكا للأمن الأطلسى. كذلك، رفض الناتو اقتراح بولندا بنقل مقاتلات من طراز «ميج ــ29 »،إلى قاعدة «رامشتاين» الأمريكية بألمانيا، توطئة لتسليمها لأوكرانيا. وأرجع الأمريكيون ذلك الرفض إلى تعاظم المخاطر الجيوسياسية التى ستتمخض عن انطلاق تلك المقاتلات من قواعد أمريكية، أو أطلسية، للتحليق بالمجال الجوى الأوكرانى، موطن النزاع مع روسيا.
باعتراض أطلسى قاطع، قوبل إلحاح زيلنسكى، وبعض ساسة أمريكيين، بخصوص فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا. حيث سيتطلب نشر مقاتلات أطلسية بالمجال الجوى الأوكرانى، لتدمير منظومات دفاع جوى لروسيا، وإسقاط مقاتلاتها حالة انتهاكها منطقة الحظر. ما قد يشعل حربا شاملة بين قوى نووية مثل روسيا وأخرى أطلسية كبريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة، تخلف بدورها مأساة إنسانية مروعة. وإلى جانب تمركز قوات برية على الأرض، وتنظيم عمليات مراقبة ومناوبات جوية متواصلة، يتطلب حظر الطيران قرارا من الأمم المتحدة، حتى لا يعد عملا عدوانيا، يعتبر الرئيس الروسى الضالعين فيه أطرافا فى الحرب المحتدمة. وردا على انتقادات الرئيس الأوكرانى لموقف الحلف، الذى سبق له فرض مناطق حظر طيران بدول غير أطلسية، كالبوسنة، وليبيا، والعراق، أكدت قيادة الناتو حرصها على منع تمدد النزاع المسلح خارج أوكرانيا، تجنبا لمآلات كارثية. خصوصا بعدما تبين أن مهاجمة روسيا أهدافا قرب حدود بولندا، تم بصواريخ من نوع «كروز» جو ــ أرض، أطلقتها قاذفات بعيدة المدى من المجال الجوى الروسى وليس الأوكرانى.
وفيما يعد استجابة لإحدى ضمانات موسكو الأمنية، لم يتخَذ الناتو خطوات عملية لضم أوكرانيا، منذ طٌرحت الفكرة رسميا خلال قمة بوخارست عام 2008. وأخيرا، توالت تأكيدات الرئيس الأوكرانى، كما مسئولين أطلسيين، لجهة استحالة انضمام أوكرانيا للحلف فى المدى المنظور. وعقب بدء الغزو الروسى لأوكرانيا، عمد بيان الناتو إلى تجنب استفزاز موسكو. فبعدما اعتمد إجراءات إضافية للردع والدفاع، لفت إلى كونها وقائية، ومتناسبة، وغير تصعيدية. فيما أعلنت واشنطن أنها لن تحارب روسيا من أجل أوكرانيا، تحت أى ظرف. وتعقيبا منه على توقعات بتدخله حالة استخدام موسكو أسلحة كيماوية أو بيولوجية فى أوكرانيا، نفى الحلف، موكلا الأمر إلى المنظمات الدولية المعنية.
ما كان لواشنطن أن تصطدم بروسيا مباشرة بغير مظلة أطلسية. ورغم إسهام العدوان الروسى على أوكرانيا فى ترميم تصدعات الحلف، يبقى الأخير عاجزا عن بلورة استراتيجية متكاملة ومستدامة للجم موسكو. فإضافة إلى تواضع خبرته فى التعاطى مع الأزمة الحالية، يتجلى تباين الرؤى الاستراتيجية بين الدول الأعضاء. فرغم تبنيه تدابير لردع روسيا عن مهاجمة دول جوارها الأطلسية، لم يٌظهر الحلف أى التزام استراتيجى إزاء كييف. ولما كانت القرارات داخل الناتو تتخذ بالإجماع، من غير المستبعد أن يعرقل بعض أعضائه ممن لديهم مصالح استراتيجية مع روسيا، تبنى خطوات زجرية ضدها. ففى حين رفضت المجر عبور قوافل الدعم العسكرى الأطلسى لأوكرانيا أراضيها، تؤثر تركيا التغريد خارج سرب العقوبات الغربية على موسكو.
كفرسى رهان إذا، تتبارى بواعث وكوابح المواجهة بين موسكو والناتو. غير أن إدراك الطرفين لمأساوية تداعياتها، يبقى بمثابة صمام أمان لتلافيها، عبر التماس الآليات الكفيلة بخفض التصعيد، ومنع النزاع المسلح من تخطى حدود الميدان الأوكرانى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved