حلمى شعراوى رجل بقبعات متعددة
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 21 مارس 2023 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
يلتقى رموز العمل الوطنى فى مصر مساء اليوم الأربعاء بمسجد عمر مكرم لتأدية واجب العزاء فى رمز وطنى كبير هو الأستاذ حلمى شعراوى خبير الشئون الأفريقية المعروف.
ويعرف المعنيون بالعمل العام الأدوار المهمة التى لعبها الراحل فى خدمة العمل الوطنى خلال الفترة الناصرية وهى من أدق فترات تاريخ مصر وأكثرها حيوية فيما يخص العمل فى الدائرة الأفريقية التى كانت بين ثلاث دوائر حكمت رؤية عبدالناصر كما سجلها فى كتابه الشهير «فلسفة الثورة» فقد كتب صراحة «لن نستطيع بحال من الأحوال أن نقف أمام الذى يجرى فى أفريقيا ونتصور أنه لا يمسنا ولا يعنينا».
وحلمى شعراوى من بين كوادر شابة عملت تحت رئاسة السيد محمد فايق الذى تولى إدارة الملف الأفريقى بكفاءة كبيرة حيث ساعدت مصر جميع حركات التحرر الأفريقى حتى أصبحت القاهرة قاعدة عمل انطلقت منها أغلب حركات التحرر الوطنى وساعد ذلك فى رسم صورة جديدة لناصر عقب حرب السويس فلم يعد فقط زعيما محليا وإنما أصبح زعيما عربيا وأفريقيا بنفس الأهمية ورقما مهما فى معادلة الصراع بين الشرق والغرب.
ومن حسن حظنا أن الأستاذ فايق أمد الله فى عمره دون جانبا من تجربته فى كتاب هام بعنوان «عبدالناصر والثورة الأفريقية» نشرته دار المستقبل العربى قبل 30 عاما، وكما علمت فإنه يعمل الآن على كتابة سيرة ذاتية تصدر قريبا، أما شعراوى فقد كتب سيرته المهنية فى كتاب «سيرة مصرية أفريقية» نشرته دار العين قبل وفاته بنحو عامين ويعطى الكتابان صورة واضحة عن سياسات مصر الأفريقية وأحسب أنهما لم ينالا الاهتمام الواجب.
أما الراحل فقد عرفته بفضل عملى الصحفى بعد أن تم تكليفى بإجراء حوار معه قبل نحو 18 عاما وقبل الذهاب إليه قرأت الكثير حول تجربة مصر فى أفريقيا لأتمكن من طرح أسئلة حول الموضوع ولا أنسى جملة قالها لى من بين جمل كثيرة فى هذا الحوار فقد قال «كان عبدالناصر يطرق باب مكتبى ويسألنى أحيانا عن أسعار الطماطم أو الخيار فى أحد البلدان التى أتولى متابعتها، ليتأكد من متابعتى اليومية لشئون هذا البلد ويراجعنى فيما أقول».
وخلال لقاءاتنا التى تكررت بعدها فى المجلس الأعلى للثقافة أيام كان تحت إشراف الدكتور جابر عصفور ومن بعده الدكتور عماد أبو غازى لمست قدر ما يتمتع به من دماثة خلق إلى جانب ثقافته الواسعة وعلمه الغزير فى فروع معرفية مختلفة، فقد كان حجة فى التاريخ والفلسفة والإنثربولوجيا ودراسات الثقافة الشعبية والفلكور وقد استفاد المجلس الأعلى للثقافة من تلك الخبرات وأتاح له تنظيم عدة مؤتمرات حول الثقافة الأفريقية فى مجالاتها المختلفة وكثيرا ما وجه لى بنفسه الدعوة لحضورها سواء فى المجلس أو فى مركز البحوث العربية الذى قام بتأسيسه وتولى إداراته ومن خلاله قدم وجوها أفريقية نضرة ذات مساهمات كبيرة فى الفكر العالمى مثل سمير أمين وعلى مزروعى.
ومن داخل هذا المركز المهم انطلقت أنضج محاولة لتسجيل تاريخ اليسار المصرى من خلال منهج التاريخ الشفاهى وجمع الشهادات الموثقة كما كان وراء عمل اللجنة المصرية للثقافة الوطنية التى تولت مناهضة التطبيع وكان أحد أبرز الناشطين فيها.
ومن أجمل اللحظات التى عايشته فيها تلك التى كان يتحدث فيها عن الأدب الأفريقى بوجه عام وعن الشعر خاصة وأذكر ليلة كاملة جالسته فيها على كافتيريا المجلس الأعلى للثقافة ظل يتحدث فيها عن لقاءاته مع الشاعر ليو بولد سنجور أحد مؤسسى حركة الزنوجة وهى حركة نشطت فى العالم وكانت تريد أن تعيد للرجل الأسود فى أزمنة العنصرية ثقته بنفسه واعتمدت الأدب طريقا لذلك وهى أمسية ساعدتنى على اكتشاف وجه جديد من وجوهه المتعددة، فقد كنت أظنه سياسيا جادا وإذا بى أجد نفسى أمام (شاعر) ولكن على طريقته الخاصة وحين كشفت له عن هذا الأمر ضحك ورد بجملة ساخرة هى «فى الليل كلنا شعراء سود» وقد استعارها من كتاب بنفس الاسم يضم أشعارا للشعراء الأفارقة الأمريكان.
ولا أنسى يوم أن اتصل بى ذات يوم خلال رئاستى لتحرير جريدة القاهرة مقترحا نشر دراسة حول رواية «عتبات الجنة» للروائى الكبير فتحى إمبابى وهى رواية ملحمية مهمة تدور أحداثها حول عائلات اثنى عشر ضابطا مصريا من العُرابيين تم نفيهم إلى قلب أفريقيا، بهدف القيام بحملة عسكرية لنقل مؤن وعتاد عسكرى إلى (لادو) عاصمة (مديرية خط الاستواء) التابعة للحكم المصرى، فى حين كانت رغبة السلطات هى التخلص العاجل منهم كى لا تعود الثورة من جديد وبدون مبالغة بهرتنى الدراسة التى أنصف فيها الرواية كما لم يفعل ناقد آخر وقدم مفاتيح لقراءتها فى إطار معارفه الأنثروبولوجية ولا أظن ان هذه الرواية الفاتنة وجدت إنصافا بنفس القدر لأكتشف وجها جديدا للراحل الذى كان كما يقال «رجل بقبعات متعددة» ولهذا سيظل فقده فادحا.