حلف شمال الأطلنطي .. قراءة جديدة لمنظمة تجاوزت سن التقاعد


علاء عبدالعزيز

آخر تحديث: الثلاثاء 21 أبريل 2009 - 12:43 م بتوقيت القاهرة

أحيانا تخدعنا بساطة الأسئلة فنبالغ فى قدرتنا على الإجابة دون أن ندرك ما تخفيه تلك البساطة من تعقيد للظواهر محل التساؤل. خذ مثلا السؤال التالى الذى يستدعيه احتفال حلف شمال الأطلسى بذكرى مرور ستة عقود على نشأته: إذا كان حائط برلين قد انهار منذ عشرين عاما، وتلا ذلك تحلل حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفييتى، فلماذا بقى حلف الأطلنطى على قيد الحياة طوال تلك الفترة؟

ثمة اتجاهات شتى فى الإجابة عن هذا السؤال أبرزها ست مدارس فى التفكير:

المدرسة الأولى: ترى أن غياب الاتحاد السوفييتى وكتلته لم يغير العالم على نحو جذرى كما يظن البعض، فروسيا وفقا لهؤلاء تمثل امتدادا تاريخيا للتهديد السوفييتى للأمن الأوروأطلسى بحكم ما تملكه من ترسانة أسلحة تقليدية وغير تقليدية، وبحكم طبيعة نظام الحكم غير الديمقراطى فى موسكو، وبحكم ما تكنه النخبة الروسية الحاكمة من نوايا عدوانية تجاه محيطها الاقليمى. ويخلص هؤلاء إلى أنه فى بيئة أمنية على هذا النحو يصبح استبقاء حلف الأطلنطى ضرورة لا مناص منها، على الأقل للقيام بمهام الردع واجبة النفاذ ليس فقط تجاه روسيا بل تجاه كل مستمرئ للمروق (الصين، كوريا الشمالية، إيران، كوبا، وغيرها).

المدرسة الثانية: (على عكس الأولى) تقر بأن تغييرا حقيقيا قد اعترى هيكل النظام الدولى بحيث بات نمط توزيع القوى عالميا أكثر تركزا فى قطب يكاد يكون وحيدا، إلا أن هذا التغيير وفقا لأنصار تلك الرؤية لا ينبغى أن يكون تكأة لتغييب حلف الأطلنطى الذى يبقى دوره حيويا فى مواجهة طائفة جديدة من التهديدات الأمنية للمصالح الغربية (تأمين منابع وخطوط نقل إمدادات الطاقة، مواجهة تنظيمات الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود، الحيلولة دون تهديد أعمال القرصنة للملاحة الدولية، وصولا إلى مجابهة مخاطر فيروسات الحواسب الآلية على أمن وانسياب المعلومات على شبكة الإنترنت).

المدرسة الثالثة: لا تنشغل كثيرا بمسألة «طبيعة التهديدات» التى تسيطر على فكر المدرستين السابقتين، بل تركز على قضية «اقتصادات الأمن»، ويسهب أنصارها فى استخدام الإحصاءات والأرقام التى تثبت أن حلف الأطلنطى لا تزال المنظمة الأقدر على توفير سلعة الأمن لأعضائه بأسعار تقل كثيرا عن التكلفة التى كانت كل دولة أوروبية ستتحملها لو لم تنل عضوية الحلف (أساس الحساب هنا هو المقارنة بين حجم المساهمة المالية السنوية للدولة العضو فى ميزانية الحلف، وحجم ميزانية الدفاع السنوية التى كانت ستتحملها الدولة للوفاء بمتطلبات أمنها لو بقيت خارج الحلف). ووفقا لهؤلاء؛ فإن الحلف سيبقى على قيد الحياة ما دامت استمرت قدرته على توفير «الأمن الرخيص».

المدرسة الرابعة: ترى فى حلف الأطلنطى تجسيدا حيا لأفكار كارل دويتش عن دور المنظمات الأمنية فى خلق «رابطة سلمية» فيما بين الدول الأعضاء ذاتها، رابطة تتأسس قبل أى شىء على تبنيهم جميعا لقيم ومبادئ ومثل عليا مشتركة، ويذهب أنصار تلك الرؤية إلى أن الأطلنطى عندما يشهر السيوف ويرفع أسنة الرماح فإنما يلجأ إلى ذلك حماية لحرية السوق والديمقراطية واحترام حقوق الانسان والتسوية السلمية للمنازعات، وعندما يردع ويحاصر ويقصف فإنما يستهدف كل منتهك لتلك الحقوق والحريات والمبادئ، وعندما يتوسع فى عضويته فإنما يرجو من وراء ذلك مد مظلة تلك الحقوق والحريات لتغطى مزيدا من الشعوب التى لطالما قاست مرارة الحرمان من جنة الليبرالية الموعودة ونعيم الاقتصاد الرأسمالى المفقود.

المدرسة الخامسة: تختزل الحلف الأطلسى فى كونه منتدى ضروريا لإدارة العلاقات وتداول الرأى وحسم الخيارات بين ضفتى المحيط فيما يخص قضايا الأمن والسلم، فالشقيقة الكبرى (الولايات المتحدة) لديها مصالح أمنية داخل أوروبا ولديها دوافع لاستخدام الأوروبيين فى عمليات عسكرية خارج الأراضى الأوروبية، ومن ثم فهى بحاجة للحلف ككيان مؤسسى دائم ومستقر يحتضن المناقشات ويتبنى الاستراتيجيات ويفرز القرارات الأمنية الجماعية المواتية لمصالح واشنطن، وبالمثل يحتاج الأشقاء الأوروبيون إلى الحلف كطاولة حوار يطرحون من خلالها شواغلهم وهواجسهم الأمنية على الشقيقة الكبرى سعيا لاستجلاب دعمها أو على الأقل تجنبا لمعارضتها.

المدرسة السادسة: تنح منحى نقديا وتتبنى وجهة نظر أكثر تركيبا، ولتبسيط الأمر يمكننا الاستعانة بالقصة التالية: يحكى أن «نملة» كانت تعمل بدأب وتفان وكان إنتاجها أكثر وفرة وأفضل مرتبة من قريناتها.. وفوق كل ذلك كانت النملة سعيدة، على أن رئيسها «الأسد» رأى بنافذ بصيرته أن تلك النملة يمكنها ولا شك أن تزيد من إنتاجها وتجوده اذا ما توفر لها نوع من الاشراف والتوجيه الحصيف، وهنا قرر تعيين «الجرادة» مشرفا عاما على النملة نظرا لما عرف عنها من قدرة على التوجيه ومهارة فى إعداد التقارير، وبدورها عينت الجرادة «عنكبوتا» ذكيا لكتابة التقارير على الماكينة، و«قنفذا» ألمعيا لحفظ وفهرسة التقارير التى تراكمت، وتطلّب الأمر الانتقال إلى مقر جديد تم تشييده على أحدث النظم فى التأمين والتجهير، وشراء مكاتب وأثاث وثير وحاسبات آلية وطابعات وماكينات تصوير، ثم ما لبث الجميع أن استعانوا بـ«الناموسة» الحاذقة للاستفادة من درايتها الواسعة بشئون الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.

على أن النملة أرهقها توالى الاجتماعات واستنفدت قواها كثرة المكاتبات، ما أثر سلبا على إنتاجيتها وحدّ من سعادتها، الأمر الذى دفع الأسد للتشكك فى القدرات الإشرافية للجرادة، فاتخذ على الفور قرارا بتعيين «الضفدع» رئيسا للقسم الذى تعمل فيه الجرادة والنملة، وسرعان ما استعان الضفدع بفريق كامل من الحشرات لمعاونته فى إعداد ما أسماه بالمفهوم الاستراتيجى الجديد لزيادة الإنتاجية، إلا أن هذا المفهوم رغم تكلفة إعداده الباهظة لم تترتب عليه أى نتائج إيجابية. هاهنا قرر الأسد اللجوء للملاذ الأخير فاستعان بالخبير الدولى المحنك «الغراب» لإعداد دراسة عن أسباب انخفاض معدل الإنتاجية واقتراح الحلول لزيادته، وبعد أشهر عديدة انتهى الغراب من تقريره المطول الذى خلص فيه إلى أن تدنى معدل الإنتاجية يرجع إلى الزيادة غير المبررة فى حجم العمالة، موصيا بضرورة التخلص من العمالة غير الماهرة. على أن الأسد لم يطاوعه قلبه الرقيق فى تشريد الآلاف من العمال الذين أوصى التقرير بتسريحهم، فاتخذ قرارا بالاكتفاء بفصل النملة.

أنصار هذا الرأى لم يفاجئهم الأداء السيئ والتراجع المستدام فى تنفيذ حلف الأطلنطى لمهامه فى أفغانستان لأنهم توقعوا هزيمة قوات الحلف فى تلك الجولة وفيما قد يتلوها من جولات فى أماكن أخرى لطالما بقيت «النملة» خارج نسيج الحلف، ولطالما استمر نهج «الأسد» فى إدارة الحلف على نحو يجمع بين الحماقة والانفراد بالقرار. 
 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved