هل النقاش العلمى الحر ممكن فى العالم العربى؟
عماد عبداللطيف
آخر تحديث:
الثلاثاء 21 أبريل 2020 - 9:25 م
بتوقيت القاهرة
وضعت ظروف تفشى جائحة كورونا البحث العلمى فى صدارة الاهتمام العام فى العالم بأسره. إذ أصبحت عيون البشر فى معظم أرجاء العالم مصوبة على الجهود التى يبذلها الباحثون والعلماء لمساعدة البشرية على هزيمة المرض، واستعادة الحياة الطبيعية. وفى العالم العربى أعلنت بعض المؤسسات العلمية عن أنشطة بحثية تستهدف الوصول إلى علاج أو تطعيم ضد المرض. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التى قد تقوم بها هذه المؤسسات، فإننى أظن أن أغلب الشعوب العربية لديها ثقة ضعيفة فى القدرة على تحقيق هذا الهدف، إلى حد اليأس من إمكانية وصول هذه المؤسسات إلى دواء شاف أو تطعيم للمرض.
وفى الحقيقة فإن ضعف ثقة المجتمع فى هذه المؤسسات له ما يبرره، بسبب عوامل ضعف التمويل، أو الفساد الإدارى، أو ضعف الصلة بالمجتمع، أو ضعف الحريات العلمية، وغيرها. لكن هناك أسبابا أخرى لا تقل أهمية عما سبق؛ تتصل بالتكوين العلمى للباحثين أنفسهم، والمناخ العام لممارسة البحث فى مؤسساتنا العلمية. وفى هذا المقال، أناقش عاملا مؤثرا فى ضعف المؤسسات العلمية العربية؛ هو غياب مناخ صحى للنقاش العلمى.
***
الكتلة الكبرى من المعارف العلمية تأخذ شكل فروض ونظريات ودعاوى واقتراحات وأطر تحليل. وقليل من هذه المعارف تأخذ شكل المسلمات والحقائق والمبادئ التى لا تخضع للنقد والتفنيد. يعنى هذا أن جل المعارف العلمية تحوى فروضا وفروضا مضادة ونظريات متصارعة ودعاوى متباينة وأطر تحليل مختلفة، ومنهجيات متنوعة. تقوى المعرفة بواسطة النقد والتمحيص والفحص والمراجعة. لذا يسعى الباحثون المتميزون دوما إلى حفز نظرائهم على مراجعة ما يكتبون، ونقده بشكل جذرى، بهدف الكشف عن نقاط ضعف بحوثهم، وفجواتها ونقائصها وتناقضاتها. فبواسطة النقد المتبادل بين الباحثين تتحصن المعارف، وتقوى، وتتحسن، وتصبح أكثر تماسكا وفاعلية، ومن ثمَ، أكثر قدرة على خدمة المجتمع. وحين تتعذر عمليات المراجعة والنقد والفحص والتمحيص، يفقد البحث العلمى القدرة على التحسين والتطور، ويغلب عليه الضعف والهشاشة. وهذه بالفعل واحدة من معضلات البحث العلمى فى العالم العربى، وسبب جذرى فى ضعف ثقة المجتمعات فيه.
تعانى معظم المؤسسات العلمية العربية من تقييد حرية النقد المتبادل بين الباحثين. وحتى فى السياقات غير الرسمية، نادرا ما يُمارس الباحثون مراجعة حرة لأعمال زملائهم، بهدف تحسينها وتجويدها. وفى الحقيقة، تفتقد معظم المؤسسات العلمية العربية إلى وجود مناخ صحى يسمح بالنقاش العلمى الحر. وتسود فى المقابل قيم مضادة لحرية النقد المتبادل بين الباحثين، تكاد تحول هذه الممارسة الضرورية إلى عمل محفوف بالمخاطر، باهظ الثمن. فحين يقدِم الباحثون العرب مراجعات علمية لنظرائهم، فإنهم يجازفون باستثارة عداوتهم، وقد يتعرضون إلى ردود فعل سلبية، تصل إلى حد الانتقام. هذه المقال محاولة لتفسير هذه الظاهرة، التى أقترح أنها تعود إلى ثلاثة أسباب.
1. الخلط بين العلم والعقيدة
العلم ليس عقائد. العلم فروض ودعاوى ونظريات ووجهات نظر قابلة للتخطئة، والتعديل، والتجاوز. وكل معرفة تدَعى أنها ليست قابلة للتخطئة والتجاوز والنقد والتطوير والتعديل ليست علما. لكن ارتباط العلم بالعقائد لقرون طويلة فى العالم العربى لا يزال مؤثرا فى طريقة إدراكنا له. فالباحثون يتعاملون مع النظريات والفروض ووجهات النظر على أنها يقين. وتراهم يدافعون عن نظرية أو تصور علمى دفاعا مستميتا، رافضين أى نقد له كأنه دينهم. فى حين أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق. فالطبيعى أن يطور الباحثون من تصوراتهم ومرجعياتهم المعرفية باستمرار. فالمعارف تتجدد باستمرار. وما يبدو صحيحا اليوم، قد يثبت خطؤه غدا. وغاية الباحث هى الحقيقة. وحقائق العلم متغيرة، ومتطورة باستمرار. ومن يفشل فى إدراك ذلك، يشبه الدجاجة التى ترقد على بيض مسلوق وفقا للتشبيه الشهير.
يكتظ العالم العربى بهؤلاء الذين يظنون أن العلم عقائد، ما إن يقتنع المرء بها فى زمن ما حتى يتشبث بها حتى يموت. فيحاربون كل نقد، ويقاومون كل جديد. وتزداد مخاطر الخلط بين العلم والاعتقاد بالنظر إلى أن هذه الشريحة من أعداء النقد غالبا ما تكون من الممسكين بمقاليد الأمور. فالمتشبثون بمعارفهم القديمة يكونون عادة من كبار الباحثين ممن توقفوا عن متابعة التطورات الجديدة فى تخصصاتهم، فيعادون الأجيال الجديدة التى تبنى تصورات مغايرة لهم. ولأنهم يمسكون بسلطات علمية واسعة (مثل الإشراف العلمى، والترقيات، والمنح، والبعثات، وغيرها) فإنهم قادرون على تعطيل حركة النقد اللازمة للتجديد، وإجبار الباحثين الجدد على ابتلاع ألسنتهم حتى حين.
2. العصبية
يردد العرب دوما أن «الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية». وإن صدق هذا المبدأ على الاختلاف فى شئون الحياة فإنه يصدق ألف مرة على الاختلاف فى شئون العلم. لكن ليس كل ما يردده الناس يؤمنون به. وحيثما ولَى الباحث العربى وجهه سيرى أن الاختلاف فى رأى علمى يُفسد للود ألف قضية. فالباحثون يتعصبون لرأيهم، ويظنون أن كل نقد موجه لفكرتهم أو مقترحهم أو نظريتهم إنما هو تهجم على شخصيتهم. فلا يتسامحون مع النقد أو يقبلوه، ناهيك عن أن يشجعوا الآخرين عليه. هذه الحساسية الشخصية للنقد تدفع بعض الباحثين إلى التظاهر بالاقتناع، وتجنب تقديم مراجعات علمية أمينة لعمل الآخرين، فى حين يلجأ آخرون إلى القيام بفعل عكسى هو التعبير عن آراء مخالفة لحقيقة ما يرون، فى شكل من أشكال النفاق المدفوع عادة بالخشية من أذى محتمل أو الرغبة فى منفعة يحققها النفاق المستتر أو المكشوف. والنتيجة هى تدمير إمكانية المراجعة الأمينة المخلصة، والإعلاء من شأن أعمال رديئة ما دام يملك أصحابها قوة البطش أو المنح، وإهمال أعمال عظيمة تصدر عن أشخاص آخرين.
3. الهشاشة
تقترن كراهة النقد بالهشاشة على نحو وثيق. فكلما زادت ثقة الباحث بنفسه وعمله زاد تقبله لنقد الآخرين. وفى المقابل، يُستثار الباحثون متواضعو القدرات من أدنى نقد. وعادة ما تدفعهم هشاشة عملهم إلى إنتاج استجابات عدوانية شرسة نحو أى اختلاف معهم، أو نقد لهم.
تتسبب هشاشة هؤلاء الباحثين فى شيوع أجواء غير مريحة فى المؤسسات العلمية العربية. فهم يحولون دون القيام بعمليات المراجعة والنقد الضروريين لتطور العلم. فنقد عملهم يجعلهم مكشوفين على نحو مريع، لذا يسعون للحيلولة دون عملية النقد والمراجعة نفسها، ويشنون حروبا قذرة فى كثير من الأحيان لتحقيق ذلك. ولأن المؤسسات العلمية العربية نفسها لا تضع الكفاءة شرطا أساسيا للحصول على الوظائف الأكاديمية أو الاستمرار فيها فإن عدد هؤلاء الباحثين هائل فى كل مكان تقريبا. وهم العائق الأساسى أمام أى مستقبل للبحث العلمى.
وحين نتوقف عن التعامل مع العلم بوصفه معتقدات، وعن الخلط بين مراجعة العلم ومهاجمة الشخصية، ونقاوم توغل الباحثين ضعيفى الكفاءة فى مؤسساتنا العلمية، حينها فقط يمكن أن تقوى ثقة المجتمعات العربية فى قدرة مؤسساتها العلمية على التصدى لتحديات خطيرة مثل فيروس كورونا.