سيدات العيد
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 21 أبريل 2023 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
لم أذق فى حياتى طعم الفرحة الخالصة إلا فى أيام العيد التى أمضيتها طفلا وشابا فى بلدتنا الجميلة، قرية المحرص التابعة لمركز ملوى فى محافظة المنيا. وكما صنع جمال المكان وصنعت العادات المبهجة للصعيد فى الأعياد فرحتى، صنعتها أيضا شخصيات ارتبطت بالمكان لتمنحه طيبة حانية وإنسانية راقية وجعلت من أيام وعادات العيد عالما مسحورا واستثنائيا.
كنا، والدتى ووالدى رحمهما الله وأختى وأخى أطال الله فى عمرهما وأنا أغادر القاهرة إلى «المحرص» فى يوم الصيام قبل الأخير أو الأخير. كان المعتاد أن ينضم أعمامى وأسرهم، أو بعضهم على الأقل، إلينا فى رحلة الطريق الزراعى الجنوبى، طريق القاهرة ــ أسوان المحاذى لمجرى النيل والذى لم يكن هناك من طريق غيره قبل تعبيد الطرق الصحراوية إلى الشرق والغرب من النيل. كان المعتاد أيضا أن نصل المحرص قبل غروب الشمس بقليل لتناول إفطار رمضان مع أسرة عمى عثمان رحمه الله، العم الوحيد الذى ظل على ولائه ووفائه «للبلد» ولم يهجرها للركض وراء مغريات القاهرة.
وبين لحظة الوصول ولحظة المغادرة فى اليوم الأخير لإجازة العيد، كان الاعتيادى فى حياتى يتعطل والاستثنائى لا يكف عن الدوران. ولم يكن الفضل فى ذلك سوى لشخصيات تركت فى وجدانى، على الرغم من محدودية الوقت الذى أمضيته معهم أو بالقرب منهم، أبلغ الأثر.
• • •
السيدة سهيلة، زوجة عمى عثمان: كانت رحمها الله بطلة لحظة الوصول إلى البلد والليلة الأولى بلا منازع. اعتادت استقبالنا على بوابة بيت العائلة، بيت جدى لأبى الذى نسميه البيت البحرى، بترحاب وافر وابتسامة رائقة وبملابس مبهجة الألوان. لم يكن صوت عمى عثمان الذى كنت أحبه كثيرا لخفة ظله وحكاياته الساخرة عن أحوال الناس والزراعة وعن خلافاته مع الجمعية الزراعية وبنك القرية (قبل أن يتغير اسمه إلى بنك التسليف الزراعى)، بل كان صوتها هو إشعار الدخول إلى عالم المحرص المسحور.
كان البيت يتجمل فى كل جوانبه، وتواشيح النقشبندى تصدح من مسجل كاسيت احتل مكانا وسيطا فى غرفة المعيشة، وخلية نحل من سيدات تتحركن بسرعة بالغة لإتمام أعمال التنظيف والطهي؛ وهى تتحرك بنفس السرعة ويدها تشارك فى كل الأعمال بينما تواصل توزيع عبارات الترحيب والابتسامات والقبلات دون تكلف أو اصطناع.
كنت أتعجب من قدرتها على تذكر تفضيلات العدد الكبير القادم من القاهرة، أخوة زوجها وزوجاتهم وأولادهم، ومراعاتها فى إعداد مائدة الإفطار العامرة. كانت، على سبيل المثال، تعرف عنى حبى لمذاق الكشك الصعيدى غير المطهى، وتأتى لى بحباته فى صحن مزركش معلنة عن وصول «بانبونى الصعايدة»!
وبعد الإفطار، ومع تعاقب المشروبات والحلويات، لم يكن وجهها يظهر أبدا علامات إرهاق أو ضيق أو بدايات تمنى انتهاء الليلة وخلود الضيوف إلى النوم ومن ثم حصولها هى على قسط أكثر من مشروع من الراحة. بل على العكس تماما، كانت بشاشة وجهها تزداد كلما طالت الليلة، ومعها كانت موسيقى مسجل الكاسيت تنتقل من الشيخ النقشبندى إلى شادية ووردة، مغنيتيها المفضلتين. وأحاديث الكبار تتقلب من عموميات «كيف الحال» إلى تفاصيل الحياة وتحدياتها ومتطلبات الأبناء وأحلامهم وشىء من النميمة البريئة عن الأقارب والنسباء فى القرى والمدن المجاورة.
• • •
السيدة نفوسة، المسئولة الأولى عن عالم البيت القبلى المسحور: كان محل إقامة أسرتنا الصغيرة فى المحرص هو بيت جدى لوالدتى، البيت القبلى الذى تفصله عن البيت البحرى (بيت جدى لوالدى كما ذكرت أعلاه) حديقة كانت فى الماضى بارعة الجمال تنتشر بها تكعيبات العنب وأشجار ونباتات متنوعة. فى سنوات طفولتى وشبابى، كانت نفوسة، أطال الله فى عمرها ومتعها بموفور الصحة، هى الوجه الأول الذى يطالعنى من داخل البيت. كانت لها هى أيضا ابتسامة ساحرة، ولسان حلو السلام والدعاء، وملس نساء الصعيد الذى تعلق به رائحة الأرض الطيبة والبيوت الأصيلة والنساء العاملات، ولون البشرة الخمرى الذى تلفحه شمس نهارات الكد والاجتهاد.
بلغة اليوم، كانت نفوسة هى مديرة المنزل. فجميع أعمال التنظيف والطهى والمشتريات وتصليح الأعطال المتكررة للمياه والكهرباء وخط التليفون الأرضى والإرسال التليفزيونى تمر من خلالها، تستمع هى إلى رغبات والدتى وأخواتها وتنقلها إلى السيدات العاملات فى البيت وإلى الرجال العاملين خارجه. كانت تتولى أيضا مهمة رعاية من قدم من القاهرة من الأطفال بمهارات كثيرة وظفتها مع أجيال متعاقبة ولم تفقدها حتى تقاعدها عن العمل قبل سنوات قليلة.
فى طفولتى، كان العالم المسحور للبيت القبلى يدور حول دهاليز خفية وأركان مظلمة، ودور سفلى غير مسموح لنا كأطفال الاقتراب منه، وحديقة واسعة بها بقايا طفولة والدتى وأخواتها، ونخل وأشجار عالية كانت المخابئ المفضلة لطيور مختلفة كنا نراقبها بانتظام. غير أن جواز المرور إلى ذلك العالم المسحور كان صوت نفوسة وحكاياتها، الجميلة فى بعض الأحيان والمرعبة فى معظمها، التى كانت ترويها لنا ونحن نتحلق من حولها فى حضرة ضوء لمبة الجاز وظلاله المثيرة. كانت أيام العيد هى أيام حكايات نفوسة التى كانت تبهر أيضا بتعليمنا بعض ألعاب أطفال البلد وفى التوسط لدى أمهاتنا إما لنحصل على المزيد من الحلوى أو لشراء المزيد من البمب أو للصعود إلى سطح البيت حيث المنظر البديع لترعة الإبراهيمية والأراضى الخضراء الممتدة بمحاذاتها.
• • •
الجدة أم أسامة، سيدة مصائر الأقرباء وكحك العيد: هى عمة والدتى ووالدى، رحم الله الجميع. عاشت فى المحرص ولم تهجرها. ارتحل أولادها بعيدا عنها، ولم يعد منهم إلى حضنها قبل وفاتها سوى ابنها البكرى الذى كنيت به. كانت صديقة محببة إلى قلب جدتى لأمى، وورثت أمى وأخواتها حبها والترحيب بوجودها معنا أيام العيد. كنت أحب سماع صوت الجدة أم أسامة الجهورى، ولكنتها المنياوية المنغمة، وقصصها التى لا تنتهى عن شجرة العائلة وأوضاع الأعدال والأسلاف ومصائر الأقرباء الذين اختبروا غدر الزمن وتقلبات الدنيا.
غير أن أيام العيد لم تكن لتحمل إلى قلبى فى طفولتى وشبابى الفرحة الخالصة التى أكتب عنها هنا دون مشهد أم أسامة وهى تجلس أمام الفرن البلدى فى حديقة البيت القبلى وتخبز به بعد أن تكون قد طحنت وعجنت وذاقت كل ما يطلبه القادمون من القاهرة وكل ما تقتضيه عادات الصعيد فى الأعياد. كان الأمر يستغرق ساعات ويتكرر يوميا، وكافة مراحله من التثبت من إشعال الفرن وضبط درجة حرارته إلى السماح بحمل صاجات الكحك والغريبة والبسكويت (حلوى العيد) وكذلك صاجات القرص والمنين والفايش (توزع فى المقابر عند زيارة الموتى) بعد زوال سخونتها تديرها هى باقتدار ومن على كرسيها أمام الفرن دون أن تتحرك ودون أن تتوقف عن اجتذاب أطراف الحديث مع جمع الكبار والأطفال المحيطين بها. كان ذلك أيضا أحد المشاهد المسحورة فى عالم المحرص.
السيدة سهيلة ونفوسة والجدة أم أسامة هن سيدات فرحة العيد وسحر بلدتى المحرص وإنسانية الصعيد الراقية.