متى نلتفت إلى واجهة مصر؟

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 21 أبريل 2025 - 6:30 م بتوقيت القاهرة

جميل هو الطموح المشروع بأن يتضاعف عدد السائحين الوافدين إلى مصر سنويًا عدة أضعاف. لكن البون شاسع بين الحلم والواقع، بل إن تحقق الأحلام وإن كانت سعيدة مبهجة ليس كله خيرًا، لأنه ينطوى على قدر من المخاطر! نعم، فالمخاطر ليست قاصرة على الأحداث السلبية، بل إن أصحاب العقول الساعية إلى النمو تنظر إلى الأحداث الإيجابية بعين الحذر وتصنّفها ضمن المخاطر.
إذا كانت المخاطر هى كل الأحداث التى تحول دون تحقيق الأفراد أو المؤسسات لأهدافهم، فإن كل حدث سعيد، مثل الزيادة المفاجئة فى الطلب على الخدمات السياحية وخدمات الملاحة الجوية، هو خطر بكل تأكيد، إذ أن عدم الاستعداد له ببنية أساسية وتقنية وبشرية معتبرة، ينطوى على احتمال تكدير وإزعاج السائحين والمستثمرين المستخدمين لتلك الخدمات، وما يترتب عليه ذلك من فقدان السمعة وهبوط التصنيف، وتراجع مزمن فى الطلب على تلك الخدمات.
لعل غالبية المستخدمين لمطارات مصر وخدمات الطيران لشركتها الوطنية الأولى (مصر للطيران) قد لاحظوا الفرق بينها وبين الخدمات المناظرة لمطارات الدول المنافسة إقليميا وعالميا. المنافسة هنا محلها السعى إلى جذب أكبر عدد من السائحين وأفضل نوعية منهم، تلك التى تنفق من الأموال داخل الدولة ما يساعد (عبر مضاعفات الإنفاق) على زيادة الدخل القومى وتحسين مستويات معيشة المواطنين.
ولأن الحديث فى هذا الأمر يحتاج إلى التخصص، ولأن الدراسات التى يجب أن نبدأ بها عملنا للوقوف بشكل علمى على طبيعة الوضع الراهن لمطارات مصر وشركاتها ذات الصلة، هى مزيج من تحليل الفجوات ومواطن القوة والضعف والفرص والتحديات، فضلًا عن دراسات معيارية مقارنة تساعد على تصنيف مصر فى هذا المجال، وتعيين أسباب وبدائل تحسين ذلك التصنيف، ومن وراءه تحسين فرص الجذب السياحى والاستثمارى المرغوب كمًّا ونوعًا.. فإن هذا المقال لن يقف إلا على مشاهدات ومعاينات وشهادات متفرّقة، لا تصلح أساسًا لدراسة علمية، بل يمكن أن تصلح صافرة إنذار ونداء استغاثة يحض المسئولين على سرعة التحرّك فى هذا الصدد.
• • •
الوافد إلى مصر متى هبطت طائرته أرض مطار القاهرة، يمكنه أن يطمئن بكل تأكيد إلى انضباط الإجراءات الملاحية، وكل ما يتعلّق بالتأمين وإجراءات السلامة، وهذا شاهد عليه ندرة الأحداث المؤسفة. لكن ما إن تقف الطائرة ويبدأ نزول الركاب، حتى يستشعر الناس حالة من الارتباك، تكشفها محادثات بأصوات مرتفعة بين الأطراف ذات الصلة، بدءًا بطاقم الطائرة ومرورًا بموظفى سلّم الطائرة، وسائقى حافلات نقل الركاب إلى مبنى الوصول.. وحتى المرور عبر بوابات الجوازات وموظفى الجمارك والخروج من باب المطار.
حالة الارتباك تنبع فى تقديرى، وبملاحظتى الشخصية التى كوّنتها عبر أسفار عدة، من ازدحام المطار بالعاملين، بما فى ذلك من وظائف تكرارية وبطالة مقنّعة! يتعاظم شعور السائح بالارتباك حينما يداهمه عدد من الأشخاص ذوى الملامح الغليظة، الذين يتلقّفون الوافدين من باب الحافلات (وأحيانًا عند سلّم الطائرة)، وهم يصيحون بنداء ملفت مزعج موتّر على أسماء أشخاص عادة ما يسبقها ألقاب مهمة بكل تأكيد! فإذا كانت أدنى درجات الإيذاء التى يتعرّض لها السائح والمواطن من هذا المشهد المتكرر، هى إحساسهما بأنهما أقل شأنًا من أولئك الذين يتلقفهم الصائحون الغلاظ لتسهيل إجراءات مرورهم عبر المطار، فهذا كفيل بأن نوقفه على الفور.
منذ ذلك الحين فإن الصياح المرتبك العصبى لا يتوقّف عند مختلف النقاط، لا تكاد تسمع معه صوت المذياع الداخلى، الذى عادة ما يكرر النداء مسبوقًا بكونه النداء الأخير، على الرغم من كونه النداء الأول (وهذا عادة فى صالات المغادرة بالطبع).. هؤلاء الصائحون يعمدون إلى لفت الأنظار فى كل حركاتهم وسكناتهم، يزاحمون الناس بشكل عصبى، يسبقونهم إلى حزام الحقائب وعربات الجر، يعبثون فى حقائب الركاب للوصول إلى ضالتهم وهى حقائب الذين كانوا فى شرف انتظارهم! لا ضابط ولا رابط ولا منظّم لصفوف! حزام سير الحقائب يتأخر بشكل ملفت فى بعض الأحيان لكنه سريع دافق فى أحيان أخرى، لا تعرف سببا لتأخر ولا مبررًا لسرعة وانسياب.
قبل الوصول إلى حزام الحقائب هناك صفوف على بوابات الجوازات (ليست الأكثر إزعاجًا فى المطارات)، لكنها تحمل أيضًا حالة التكلّف والغموض. فى عصر التحوّل التقنى هناك رغبة غير مفهومة فى تعبئة يدوية لبطاقة بائسة تتكلّف الدولة طباعتها دون مبرر. بطاقة تحمل بيانات عامة كلها فى جواز السفر وتذكرة الطيران، وأجهزة الحاسب التى لابد أن تتضمّن قواعد بيانات محققة لأغراض الفحص الأمنى! هذه البطاقة لا يشبهها -فى أى مطار قمت بزيارته- سوى بطاقات بيضاء تطالب الركاب بالإفصاح عن أى مواد ضارة أو بذور أو أدوية يحملونها، لكن هذا كله لأغراض جمركية محددة، وليصبح الراكب مسئولًا عن مخالفته للتعليمات المذكورة على ظهر البطاقة.
لكن تجاوز ضابط الجوازات بعد الحصول على خاتمه الذى يخفيه فى قلب الجواز بين عشرات الأختام القديمة، ليس نهاية المطاف، إذ أن هناك وظيفة غير موجودة فى أى مكان زرته فى العالم، وهى المفتش عن الأختام! فهذا شرطى كل وظيفته أن يعطلك من أجل التقليب فى جواز سفرك بحثًا عن الخاتم المخفى، وربما شيّعك بنظرات عتاب أو عاتبك باللفظ لأنك أضعت صفحة الخاتم! وظيفة تتحمّل راتبها وتكاليفها الأخرى (ومنها الوفورات السلبية والمزاحمة) حكومة فقيرة الحيز المالى، مثقلة بأعباء الإنفاق العام دون أى عائد إيجابى مفهوم، إذ إنه يستحيل أن يمر عبر بوابات الجوازات أى من الركاب، اللهم إلا بعض الصائحين الذين يتحركون بثياب مدنية ويتحركون بعصبية ودأب بين البوابات والممرات لإثبات النفوذ والقوة للمستعينين بهم.
العبور من مأمور الجمارك فى مطار القاهرة لا يخلو من فحص جديد للجواز، ونظرة متهِمة مقدّرة للحقائب، وتقييم لمن يمر عبر الجهاز ومن يمر دون خضوع حقائبه للفحص. كل ذلك يمكن أن يتم بشكل آلى يقل فيه التعامل البشرى إلى أدنى مستوياته، ولا يتعرّض الوافد إلى التفتيش إلا متى تطلّب مروره عبر بوابات مخصوصة لمن يحملون أمتعة تستحق الإفصاح.
• • •
بالتأكيد هناك مخاطر تتعلّق بتسرّب بعض المخالفين واستفادتهم من سهولة النظام، لكنها مخاطرة محسوبة، تزيد عوائدها على أضرارها، إذ يمكن للفحص العشوائى والجزاءات المنطقية أن يعلّما الناس تدريجيا كيفية الامتثال الطوعى، والمرور عبر البوابات التى تستلزم إفصاحًا أو عبر تلك التى لا تقابل فيها أحدا ولا آلة. لا تنس عزيزى القارئ أن معظم البلاد صارت بضائعها أغلى من مصر، بعد التراجعات الكبيرة فى قيمة الجنيه منذ نهاية عام 2016، بما انعكس على انخفاض حجم البضائع المستحقة للخضوع للجمارك بداهة وبكل تأكيد.
وبعد أن يمر الوافد عبر كل الصعوبات ومحطات الإزعاج والتوتر، يعبر إلى ساحة واسعة (داخل مبنى الوصول) يداهمه فيه عشرات الصائحين: تاكسى؟.. ليموزين؟ بصورة رتيبة مزعجة متشنّجة متنافسة لا تشفع معها أية وسيلة للشكر أو الرفض أو النهى العنيف! من سمح لهؤلاء بالدخول إلى تلك الساحة أو حتى بالوقوف على بابها فى الخارج مخالفين لكل الأعراف المتبّعة فى هذا الشأن؟!
• • •
الأمر لا يختلف كثيرًا مع الداخل إلى محيط مطار القاهرة بغرض السفر، فعلى الرغم من وصوله المطار عبر طرق جديدة ومتطورة وواسعة، أنفقت عليها الدولة مليارات الدولارات لتحسين بنيتها، فإن نزول المسافرين يمر عبر مساحات ضيقة لا تصلح لوقوف السيارات إلا بشكل مكدّس، ناهيك عن رغبتنا فى مضاعفة الأعداد! كما يتعين على المسافرين الخضوع للتفتيش قبل دخول المطار عبر آلية لا تختلف عن التفتيش لركوب الطائرة! وهى إجراءات غريبة مركّبة غير موجودة إلا فى دولة أو دولتين من الدول ذات التصنيف الأمنى المتدنى للغاية. ثم يمر المسافر بالكثير من مضايقات العمالة الزائدة حتى فى استراحة رجال الأعمال التى ينتظرك فيها العمال بجوار ماكينات القهوة وداخل الحمامات! بل إن استراحات البنوك عادة ما تكون ملاذًا لى عند السفر على الدرجة الأولى أو درجة رجال الأعمال هروبا من ازدحام الاستراحات وإزعاجها.
• • •
لن يتسع المقال للحديث عن مستوى النظافة وجودة الخدمات وارتفاع تكلفة المواد الغذائية المقدّمة بشكل غير مبرر داخل المطار، لكن الافتقار إلى خدمات الصيانة والنظافة واللياقة فى معاملة الركاب هى كلها أمراض انتقلت من مرافق المطار إلى شركة الطيران، والتى حققت خسائر مليارية خلال السنوات الأخيرة، وتلقّت الكثير من المساعدات الحكومية والتسهيلات التى لو أنها أتيحت لقطاع خاص محترف لكانت النتيجة مختلفة تمامًا.
إدارة هذا النوع من المرافق والشركات يحتاج إلى احتراف وتدريب وإدارة مالية وفنية منضبطة قائمة على الدراسات، وليس إلى الاجتهاد وإعادة اختراع العجلة!

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved