نظرات على المسيحيين العرب
سامح فوزي
آخر تحديث:
السبت 21 مايو 2011 - 9:28 ص
بتوقيت القاهرة
تطرح الثورات العربية المطالبة بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية أسئلة كثيرة، أحدها يخص المسيحيين العرب. شكل «ميدان التحرير» فى قلب القاهرة نموذجا لتجديد رابطة التعايش الإسلامى المسيحى، ثم ما لبث أن واجه المجتمع إرث الطائفية الذى ظن أنه تجاوزه، ولكن بوتيرة أسرع مما كان عليه فى ظل النظام السابق. وفى سوريا، حيث يعيش مجتمع مسيحى متنوع رفعت فى التظاهرات شعارات كثيرة، منها ما توعد المسيحى بالتهجير إلى بيروت، مثلما تتوعد العلوى بالمصير المشئوم. سؤال التنوع الدينى فى مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية لم يكن مطروحا فى الحالة التونسية، لكنه مطروح بقوة فى الحالتين المصرية والسورية، والتى لم تغب عن كليهما ما جرى فى العراق للمسيحيين عقب سقوط نظام صدام حسين، وإن ظل السياق فى الحالة الأخيرة مغايرا.
•••
(1)
الحديث فى مسألة المسيحيين العرب شائكة، ومتعددة، ولها جذور تاريخية بعيدة. ولكن يمكن تسجيل ثلاثة هوامش أساسية:
الهامش الأول: المسيحيون العرب يعبرون عن رافد أساسى فى الثقافة العربية، كنيستهم هى كنيسة العرب، حسب وصف «جان كوربون»، وحضورهم الحى، الفاعل، الممتد على مدار قرون شاهد عيان على تعدد الثقافة العربية، وإمكانية تعايشها مع المختلف دينيا.
الهامش الثانى: خرج المسيحيون العرب من رحم الدولة العثمانية بأوضاع سياسية مختلفة، طبقت دول المشرق العربى نظام الملل والطوائف، وسارت مصر فى مسار آخر، دشنته خبرة تاريخية مختلفة، حصل فيها الأقباط على الحق فى المواطنة منذ منتصف القرن التاسع عشر، ثم شاركوا فى الحياة السياسية بدءا من مجلس شورى النواب عام 1866 ثم الحياة الحزبية فى مطلع القرن العشرين، وثورة 1919، ووضع دستور 1923.
الهامش الثالث: شارك المسيحيون العرب فى مشروع النهضة العربية، ولهم إسهامات لا تنكر فى عالم الفكر والسياسة، والاقتصاد، وانخرطوا فى المشروعات السياسية الكبرى التى عرفتها الحقبة شبه الليبرالية فى النصف الأول من القرن العشرين، ثم ما لبث أن تقلص حضورهم تدريجيا، وظهرت تحديات كثيرة عانوا منها تتمثل فى شيوع ثقافة عدم التسامح، وظهور آراء فقهية تنال من مواطنتهم، وتراجع مشاركتهم فى المؤسسات السياسية المنتخبة، والأجهزة الإدارية والبيروقراطية، وحصرهم جميعا فى إطار تمثيل طائفى، تعبر عنه المؤسسة الدينية إما بشكل مقنن، كما فى الحالة اللبنانية أو غير مقنن كما فى الحالات الأخرى الأردنية، والسورية، وأخيرا المصرية. تسببت هذه التحديات فى دفع قطاع من المسيحيين إلى الهجرة إلى أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا، مما أضعف من تواجدهم عدديا فى المحيط العربى، ويكفى القول أنهم كادوا يندثرون فى فلسطين، موطن بزوغ المسيحية، ثم فى العراق نتيجة الاستهداف والترويع المستمرين، على النحو الذى يجعل المسيحيين فى مجمل المنطقة العربية يقتربون من عشرين مليون شخص.
•••
(2)
هناك قطاع من المثقفين يرون أن المسيحيين العرب يعانون فى المنطقة العربية، ولكن معاناتهم هى جزء من معاناة أكبر يشترك فيها العرب جميعا مسلمين ومسيحيين. لم يفرق الاستبداد بين شخص وآخر حسب هويته الدينية، وطال الظلم الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. قد يكون ذلك صحيحا بشكل عام، ولكن إذا دققنا النظر سنجد معاناة المسيحيين لها ما يميزها، نظرا لأنها ليست فقط نتيجة مباشرة للاستبداد السياسى، ولكنها أيضا تعبير عن انخفاض منسوب التسامح على المستوى الاجتماعى، وفى العلاقة اليومية المباشرة بين المسلمين والمسيحيين.
وإذا كان الاستبداد سببا رئيسا فى معاناة كل المواطنين، فإن المجتمع المصرى تخلص من رأسه فى ثورة 25 يناير، التى احتضن فيها «ميدان التحرير» كلا من المسلمين والأقباط فى امتزاج فريد، يصلون معا، ويناضلون معا. ولكن بسقوط النظام عادت الطائفية تطل برأسها، بشكل لم يكن معهودا من قبل. كنيسة تهدم، وأخرى تحرق، وثالثة تحاصر، ورابعة تنقل من مكانها، وشيوع مناخ من الخوف والشك والارتياب على مستقبل المواطنة الكاملة لكل المواطنين فى مجتمع ديمقراطى يستوعب كل مكوناته.
وقد طرح الأستاذ فهمى هويدى فى مقال له الثلاثاء الماضى إشكالية الاستقطاب الإسلامى العلمانى، والتى يرى أن الأقباط يصطفون فيها إلى جانب العلمانيين. قد تكون الملاحظة فى مجملها صحيحة، ولاسيما إذا ارتبطت بتحليل ما جرى فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى مارس الماضى، والحديث المستمر حول الدولة الدينية والدولة المدنية، الذى تحول إلى مساجلات بلا مضمون، تسهم فى بث مشاعر الاستقطاب والعصبية أكثر ما تفيد فى تحديد ملامح المستقبل، خاصة أنها تقدم بلغة لا يفهمها الناس، ولا ترتبط بهمومهم الحقيقية. ولكن القضية ترتبط بإشكالية أخرى هى حالة «السيولة» على الجانب الإسلامى، التى نشأت من ظهور حركات وفرق متنوعة، تطرح تصوراتها، بعضها متناقض مع الفقه المصرى التقليدى، وبعضها يبث هواجس فى نفوس المصريين. وتبدو هذه الحركات الإسلامية مختلفة حينا، ومتفقة على مشروع واحد أحيانا، وهو ما يجعل المجتمع فى حيرة من أمره، ولا يعرف إلى أين تتجه، وماذا تريد على وجه اليقين.
•••
(3)
إذا عدنا إلى المسيحيين العرب، فإن استمرار حالة الاستقطاب بين التيارات الإسلامية من ناحية والقوى العلمانية من ناحية أخرى يمثل تحديا بالنسبة لهم، ومنزلقا أخشى السقوط فيه. والخشية على المسيحيين العرب فى هذه الحالة لا تنفصل عن حالة خوف على مصير مجتمع يعيد تجميع مكوناته، ويقف على اعتاب وضع اقتصادى صعب أن يقع فى مستنقع يمزق حالة التوافق الهشة، التى عرفتها الثورة الديمقراطية.
قد يكون مفيدا فى هذه الفترة البحث عن المفاهيم التى تجمع أكثر مما تفرق، وتخلق حالة من التوافق بعيدا عن النفور والاحتقان. وأتصور أن مفهوم «الإسلام الحضارى» يمثل مدخلا لتحقيق التوافق بين المختلفين، ويقضى على حالة الاستقطاب الحالية.
بصفة عامة هناك منهجان للإسلام، أحدهما حضارى رحب، يشعر الآخر بوجوده فيه بذاته، وعقيدته، وثقافته الفرعية، دون تناقض مع التصور العام السائد للإسلام. وهناك منهج آخر متشدد، مغلق، لا يعترف بالآخر المختلف دينيا، ويشكل رقيبا على ضمير المسلم. الأول يعبر عن الفقه المصرى الرحب، والآخر يمثل فقه اخر نشأ فى مجتمعات مغايرة، واكتسب منها خصائصه المتشددة.
•••
ومن الطبيعى أن يتلاقى المسلم العربى مع المسيحى العربى على أرضية الإسلام الحضارى، الذى يرفض الغلو والتطرف، ويصون الحرية الدينية، ويعلى من شأن الكفاءة فى شغل الوظائف العامة، ويجعل الإنجاز عنوان الحضور فى المجتمع، دون نظر إلى النوع أو المعتقد الدينى للأشخاص. الإسلام الحضارى هو «انتماء اجتماعى» جديد يحفظ للثقافة العربية تنوعها ورحابتها. وقد عبر الدكتور «كمال صليبى» عن هذه الظاهرة بقوله «العرب المسيحيون الحلفاء الطبيعيون للإسلام الحضارى فى مواجهة قوى التخلف فى البلاد العربية».
فى الخبرة المصرية الآنية يبدو أن «الإسلام الحضارى» لديه فرصة حقيقية للتشكل فى إطار مؤسسة الأزهر، التى تحولت ــ واقعا ــ إلى كيان جامع تلتقى فيه التيارات الإسلامية المتنوعة، والقوى العلمانية، ويشعر المسيحيون بانتمائهم له، ويمكن من خلال الالتقاء فى رحابها الاتفاق على المبادئ الأساسية الحاكمة للعلاقة بين الدين والدولة، المقدس والنسبى، فى إطار رؤية أشمل لمقتضيات مجتمع يحبو ديمقراطيا، يريد أن يكون أكثر تسامحا، وأقل تعصبا.
•••
هذه الصيغة ليست صعبة المنال، ويمكن تحقيقها فى ظل حوار حضارى ممتد، لا يعرف الاستقطاب، كما لا يعرف الخوف والارتياب، وهناك من الاجتهادات الإسلامية المعتبرة، التى تشكل العمود الفقرى للإسلام الحضارى تعزز حقوق المواطنة للمختلف دينيا، وتحترم العقائد الدينية، وحرية الرأى والاعتقاد، والحق فى شغل المناصب العامة فى الدولة من أعلاها إلى أدناها على أساس مبدأ الكفاءة، وتسمح بالتنوع السياسى والثقافى فى ظل مجال عام مفتوح أمام الجميع.