(أنا رجل)
توماس فريدمان
آخر تحديث:
السبت 21 مايو 2011 - 9:26 ص
بتوقيت القاهرة
ترسم متابعة الانتفاضات العربية هذه الأيام ابتسامة على وجهى، وتصيبنى بشوكة فى معدتى. تأتى الابتسامة من مشاهدة كتلة بشرية بأكملها تتخلى عن خوفها وتستعيد كرامتها. ويأتى الألم من زيادة القلق من أن الربيع العربى ربما كان محتوما وجاء بعد فوات الأوان فى نفس الوقت. فإذا لم تكن تشعر بكل من هذين الشعورين، فأنت لا تولى اهتماما. وبالنسبة للابتسامة، فقد نبهنى صديق ليبى إلى أنه كان يشاهد قناة فضائية تبث تقريرا من بنغازى، ولفت نظره لافتة رفعها متظاهر عاليا تقول «أنا رجل». فإذا كانت هناك دلالة تلخص الانتفاضة العربية بالكامل، فهى تلك اللافتة.
وكما حاولت أن أوضح، فهذه الانتفاضة ليست سياسية فى الأساس. وإنما وجودية. فهى تنتمى لألبير كامى أكثر من انتمائها لتشى جيفارا. فقد جردت هذه الأنظمة العربية جميعها شعوبها من الكرامة الأساسية بدرجة أو بأخرى. وحرمت مواطنيها من الحرية ولم تسمح لهم أبدا بالاقتراب من تطوير إمكاناتهم. ومع زيادة الارتباط بين أنحاء العالم، بات واضحا لكل مواطن عربى مدى تخلف بلاده ليس فقط بالنسبة للغرب، ولكن أيضا بالنسبة للصين والهند وأجزاء من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وأثار هذا الارتباط بين معاملتهم كأطفال على أيدى حكامهم المستبدين، وكمتخلفين على أيدى الغرب، شعورا بالمهانة، ظهر فى علامات مثل تلك اللافتة فى ليبيا، تعلن للجميع «أنا رجل» لى قيمة، ولدّى تطلعات، أريد الحقوق التى يمتلكها جميع الآخرين فى العالم. ونظرا لأن كثيرين من العرب يتشاركون فى هذه المشاعر، لن ينتهى هذا الربيع العربى، بصرف النظر عن عدد من ستقتلهم هذه الأنظمة.
•••
وأفضل من يعبرون عن هذا الحال هم الروائيون، لا علماء السياسة. ويعكف ريموند ستوك، الذى يتولى تدريس اللغة العربية فى جامعة درو فى ماديسون بولاية نيوجيرسى، بكتابة سيرة ذاتية لنجيب محفوظ المصرى الحائز على جائزة نوبل. وفى مقال نشره معهد أبحاث السياسة الخارجية، أوضح ستوك أن محفوظ تنبأ فى روايته «أمام العرش» بالعديد من المشاعر التى تحرك الربيع العربى. حيث وضع محفوظ على لسان زعيم متمرد وهو يدافع عن ثورته ضد الفرعون كلمات يمكن أن تكون ترددت فى أى وقت فى ميدان التحرير هذا العام.
«لقد تحملنا آلاما تتجاوز قدرة البشر على الاحتمال وعندما ثار غضبنا العنيف ضد عفن القمع والظلامية، أطلقوا على ثورتنا الفوضى، ووصفونا بأننا مجرد لصوص. غير أنها لم تكن سوى ثورة ضد الاستبداد باركتها الآلهة».
غير أن ذلك أيضا يشرح الشوكة فى المعدة. فقد حرصت هذه الأنظمة العربية على منع ظهور مجتمع مدنى أو أحزاب تقدمية تحت حكمها. وبالتالى فعندما تتحطم هذه الأنظمة من القمة، يتجه المصعد من القصر إلى المسجد مباشرة. حيث لا يوجد شىء آخر بينهما؛ لا أحزاب ولا مؤسسات شرعية.
•••
ومن ثم، يواجه الغرباء معضلة قاسية: فأولئك الذين يقولون إن أمريكا كان ينبغى أن تقف إلى جانب حسنى مبارك، أو لا يجب عليها أن تؤيد الإطاحة ببشار الأسد فى سوريا باسم الاستقرار ينسون أن استقرارهما بنى على ركود ملايين العرب، بينما تتحرك بقية العالم إلى الأمام. فالأنظمة العربية لم تقدم الاستقرار على نمط الاستبداد الصينى: سنسلب حريتكم ونعطيكم التعليم وارتفاع مستوى المعيشة. وإنما كانوا يفرضون استقرار الاستبداد العربى: سوف نسلب حريتكم ونطعمكم الصراع العربى الإسرائيلى، والفساد والظلامية الدينية.ولكن تبنى إسقاط هؤلاء الطغاة كما ينبغى علينا يماثل الدفاع عن هدم بناء فاسد من دون ضمان لإمكانية إعادة بنائه. وذلك ما حدث فى العراق، وكان أمرا مكلفا للغاية بالنسبة لنا أن نعيد بناء نظام جديد، لكنه ما يزال واهيا. ولن تقدم جهة خارجية على القيام بذلك مرة أخرى. ومن ثم، فإن احتضان سقوط هؤلاء الطغاة، هو أن نأمل أن تستطيع شعوبهم التوحد من أجل توليد الديمقراطية فى مصر وسوريا واليمن وليبيا. ولكن ينبغى على المرء هنا أن يسأل بأمانة: هل الانهيار فى هذه المجتمعات أعمق من أن يستطيع أحد بناء أى شىء لائق عليه؟ هل كان الربيع العربى حتمى، وفات أوانه فى نفس الوقت؟ وإجابتى هى: إن الأوان لا يفوت أبدا، لكن بعض الثغرات أعمق من غيرها، ونحن نشهد الآن أن الحفرة التى يتعين على الديمقراطيين العرب الخروج منها عميقة بالفعل. ونتمنى لهم النجاح.
ويشير ستوك مرة أخرى إلى فقرة فى رواية نجيب محفوظ «أمام العرش» يتحدى فيها كل زعيم مصرى خليفته. وفى هذه الحالة، يهاجم مصطفى النحاس، زعيم حزب الوفد الليبرالى الذى تعرض للسحق عندما قاد جمال عبدالناصر انقلابا عسكريا فى 1952.
ويقول النحاس لناصر إن أولئك الذين أقاموا ثورة 1919 كانوا أصحاب مبادرة وابتكار فى السياسة والاقتصاد والثقافة. ويوضح له كيف لوث بغطرسته أعماقه الطيبة، ويلفت نظره إلى سوء التعليم وانتشار الفساد فى القطاع العام.. ويوضح له كيف أدى تحديه لقوى العالم إلى خسائر رهيبة وهزائم مخزية. ويوبخه لأنه لم يحاول الاستفادة من رأى الآخرين.. وهو ما كانت نتيجته الصخب والنشاز والأساطير الفارغة التى انهالت على كومة من الأنقاض.