أطفال شوارع والإعاقة وبيع الجسد للنجاة
نيللى على
آخر تحديث:
الأحد 21 يوليه 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
كانت ثالث زيارة لى إلى الملجأ، كانت الأجواء سعيدة ذلك اليوم وهو ما علمت به لاحقا باقتران ذلك بوصول مولود جديد. فقد عادت شادية ومعها مولودها الجديد بعد يوم من عملية قيصرية. طَلَبت إذا كان من الممكن لى الدخول لرأيتها، فأنا لم أر شادية من قبل، دخلت إلى غرفة النوم والتى كان بها ثلاث أسِرّة بطابقين وستة خزانات كل منها مقفل بقِفل على حِدةَ. شادية مستلقية على السرير وهى ترتجف. شعرت بالألم لرؤيتها، فلم يسبق لى وأن قابلت شخصا مصابا بمرض باركنسون (وهو مرض يسبب ارتعاش فى اطراف الجسم). فجهلى لكلٍ من المرض وأطفال الشوارع لم يجعلنى مستعدة لرؤية طفل مصاب بذلك المرض. كانت شادية تبدو جميلة على الرغم من أنه بدا على عينها اليسرى من أنه تم اقتلاعها.
ابتسمت وسألت شادية إذا كان من الممكن لى بلمس طفلتها هانّا. ابتسمت لى. كم كانت هانّا رقيقة! كم واثقة وهادئة بدَت لى تلك الطفلة الصغيرة وهى ملفوفة ببطانية صفراء اللون مُتبرَع بها. كانت مستلقية بسعادة بجانب والدتها غير مدركة لما كانت تفقده. اخبرتُ شادية كم جميلة بدَت ابنتها وتمنيت لها بأن تنشأ ابنتها بحياة سعيدة. الآن استرجع ما قلته وتصيبنى القشعريرة.
خَرَجتُ من الغرفة لأتحدث مع شيماء، إخصائية نفسية رائعة. أخبرتنى بأن هانّا هى المولودة الرابعة لشادية كمحاولة منها لإقناعى بأن شادية معتادة على مثل هذا الشيء. شعورى بكونى متطفلة لوجودى هناك بالإضافة إلى صورة شادية التى كانت تراود ذهنى وهى مستلقية مع انعدام الحس الأسرى والتى كانت بحاجة له حولها. علمت بأن ذلك الشعور سيطاردنى مدى العمر ولكنى لم أدرك بأن هناك المزيد لقصة فتاة الشارع تلك بالتحديد سيكون مصدر أرق لى، مسببا ندما مؤلما مثيرا للكثير من الأسئلة فى ذهنى عن القيمة الحقيقية للعمل الذى ذهبت هناك لأقوم به (أو عدمها).
●●●
تركت الملجأ وتذكرت من هى شادية، فتم اخبارى بشكل بسيط عن ظروفها، هى شابة صغيرة تعيش فى الشارع بعد أن تركت والديها المتعسفين تبيع جسدها مقابل مأوى. اعتادت شادية المجيء إلى الملجأ لتلقى الرعاية عند كل حالة حمل لها بحيث تتركه ومعها رضيعها أو رضيعتها بعد أربع أشهر من وضع جنينها. أنا لست من هواة الإحصاءات ولكن عاملى الملجأ يقولون لى بأن 20% فقط من الفتيات اللواتى يقدمن إلى الملجأ يتم اعادة تأهيلهن مجددا داخل المجتمع ولكن بقية الفتيات كشادية يعدن إلى حياة الشوارع، فلا يوجد فهم كامل لتلك المشكلة لقلة الأبحاث التى تتناول هذه المشكلة الاجتماعية.
كانت شادية قد هربت من منزل ابويها وذلك بعد تحمّل لسوء معاملة أهلها تجاهها كابنة تعانى من إعاقة حركية ومنذ ذلك الحين وهى تعيش لسنوات فى الشارع. ثقافة تملك الأطفال تلقى بظلالها الخطيرة على الصدمة التى يعانيها أطفال الشوارع ذوو الإعاقة فى مصر وشيء كهذا عادةً ما يُنسب إلى الفقر والجهل، ولكن ذلك ليس صحيحا.
سبق وأن اتخذت شادية العديد من القرارات التى أدت بها إلى الاستلقاء بجانب طفلتها الرابعة. ولكن على من نُلقى نحن اللوم؟ ففى مصر، لا يوجد نظام رعاية واهتمام بديل لاطفال الشوارع، فاتجاه شادية لحياة الشارع كان الخيار الأسهل لها، كذلك الحال للكثير من الأطفال الآخرين على الرغم من المخاطر التى يواجهونها. شادية تبيع جسدها مقابل بعض الطعام. أنا اتعجب وأسأل نفسى، من يقبل على نفسه أن ينام مع فتاه لديها اعاقة مقابل ساندويتش أو توفير مسكن مؤقت لها؟ هل هم نفس الرجال الذين أتطلع إلى أن يقوموا بالمساعدة فى ادارة الحملات معنا لإحداث التغيير وتوفير الأمن للأطفال المحتاجين، الأكثر تعرضا للمخاطر؟
●●●
كانت جميع محاولات الملجأ قد فشلت لإعادة تأهيل شادية، كانت أولها إعطاء شادية قرضا صغيرا لتفتح كشك للبيع ولكنها قد فشلت فى إدارته، أيضا حاول الملجأ ان يُزوج شادية لرجل أيضا محاولة إقناعها لترك طفلها فى ملجأ يسمى ملجأ الأحلام وهو للأطفال تحت سن الخامسة بحيث يتركن الفتيات اطفالهن هناك ويزرن أطفالهن متى شئنَ، على الرغم من ذلك، باءت جميع المحاولات بالفشل مع شادية.
على الرغم من عدم قدرتى على معرفة قصتها بالكامل منها، اختارت شادية على أن أقدم أنا لها بعض المساعدة، طلبت منى أن احضر لها بعض الأشياء كمزيل العرق، شامبو وسماعات لمشغل الموسيقى لها. طلبت منى خلال زيارتى لها فى فترة العيد أن أقدم لها مساعدة لم أتوقعها، طلبت منى أن آخذ هانّا.
حَمَلت «هانا»، ظنا منى أن شادية تريد الذهاب لتضع نقود العيد (العيدية) بعيدا، فوضّحت أنها تريدنى أن آخذ ابنتها معى، لأربيها، مدى الحياة.
قضيت ساعة وأنا أُحدث شادية عن مدى براعتها باعتنائها بطفلتها، كنت صادقة بذلك، فقد كانت هانّا وأمها دائماً تفوح منهن رائحة جميلة، وبدا لى مدى اهتمام شادية بطفلتها فهى دائمة هادئة لا تبكى ودائما ما تكون مستلقية بالقرب منها، أخبرتها عن مدى حب هانّا لها وهو ما كان واضحا بالنسبة لى، وكيف أن هانا ستكبر لتقف بجانبها وتكون سندا لها. كان قد بدا علىَّ مدى سذاجتى بعد أشهر من وجودى معهن، ولكن فى المرة اللاحقة التى زرتهن بها، كان شادية وطفلتها قد اختفيتا.
●●●
لاحقا وبعد بضعة أشهر، خلال جولتى بصحبة تغريد التى استغرقت 3 ساعات إلى الجرّاح، وجدت أن شادية قد باعت طفلتها مقابل 500 جنيه لزوجين، وأن الزوجين قد أخذا هانّا ولكنهما لم يدفعا لها مقابل ذلك.
المسئولية تقع على عاتقنا جميعا بأن بلدنا لا توفر نظام رعاية بديلا ومُرَاقبا أفضل من الحالى للعناية بالأشخاص كمثل شادية. هانّا سوف تظل تطارد افكارى، وأتمنى أن تطارد أفكار كل مصرى كان فى استطاعته وفى سلطته توفير بديل أفضل لشادية وأطفالها وسلامتهم، ولم يحرك ساكنا.
أطفال الشارع الذين يستعطفون الهبة منا اليوم، سيتحولون للخارجين عن القانون الذين يضعون رقابنا تحت أنصالهم، وهذا ما نستحقه إحقاقا لتجاهلنا.
باحثة فى علوم الانثربولوجى بجامعة لندن ــ ومتخصصة فى دراسة أطفال الشوارع