رجعونا مصر.. عن ظلم حكام يوليو لليهود المصريين

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 21 يوليه 2017 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

قبل أيام قليلة، انتهيت من قراءة كتاب «الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين – وقائع خروج أسرة يهودية من مصر» للمؤلفة لوسيت لنيادو (قرأت الكتاب فى نسخته الأصلية التى نشرت باللغة الإنجليزية فى ٢٠٠٧ وترجمتها فى ٢٠١٠ إلى اللغة العربية دار الطنانى للنشر). قبل أن أنتقل من العاصمة الأمريكية واشنطن عائدا إلى كاليفورنيا، وبعد أن أثقلت عليه بحديث عن رائحة ليل القاهرة التى أفتقدها كثيرا وعن الحوارات العابرة مع غرباء فى الشوارع ووسائل المواصلات التى لم أجد دفئها فى مكان آخر، أوصانى صديق أمريكى ــ إيرانى بقراءة كتاب السيدة لنيادو مؤكدا أن به من الحكايات عن قاهرة القرن العشرين ومن ذكريات عشاق لها غادروها دون أن يغادرهم عشقها ما سأهيم به شغفا.

الكتاب يوثق لحياة أسرة يهودية مصرية فى القاهرة بين أربعينيات وستينيات القرن العشرين، ولظروف تهجيرها فى ١٩٦٣ إلى فرنسا ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية. بطل الكتاب، الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين، هو والد المؤلفة. اسمه ليون لنيادو، سليل أسرة عربية من حلب قدمت مصر فى خواتيم القرن التاسع عشر بحثا عن حياة آمنة فى مدنها الكوزموبوليتانية كالقاهرة والإسكندرية وبورسعيد وعن فرص أفضل للتعليم والعمل وسط سكانها مختلطى الأعراق والديانات. على صفحات الكتاب، نرى ليون رجلا أنيقا يعيش فى القاهرة الخديوية (شارع الملكة نازلى سابقا، رمسيس حاليا) مع والدته (ظريفة) وابن أخته (سليمان) ثم مع زوجته (ايديت) وأولاده الأربعة (أصغرهم الابنة لوسيت، المؤلفة). نراه متنقلا بين أحياء القاهرة لمباشرة تجارته، وممضيا لأوقات طويلة فى مقاهيها أوروبية الطابع، ومستمتعا بحياة الليل بين حاناتها ومراقصها المبهجة، ومتقربا من الجاليات ذات الأصول الأجنبية بسبب إجادته للغات الإنجليزية والفرنسية واليونانية. نراه محبا للملكية المصرية التى عاملت اليهود المصريين كمواطنين متساوين فى الحقوق والحريات مع غيرهم من أهل البلاد، وحمت وجودهم الاجتماعى ونشاطهم الاقتصادى، وضمنت ممارستهم الآمنة لشعائرهم الدينية، ولم تتورط فى التمييز ضدهم أو اضطهادهم فى أعقاب النكبة وخسارة مصر والعرب لحرب ١٩٤٨. وبجانب وجهى ليون كتاجر ميسور الحال ومحب للحياة ومفاتنها، نراه فى وجه ثالث كيهودى متدين يبدأ يومه بالصلاة فى أحد المعابد القريبة من مسكنه، ويقرأ الكتب المقدسة بانتظام، ويأخذ عطلة السبت وغيرها من العطلات الدينية بجدية تامة. وفى الوجوه جميعا، يبدو الرجل الأنيق عاشقا للقاهرة ولعيشه بها، وتظهر القاهرة من خلال وقائع حياته وحياة أسرته باهية الجمال ومتسامحة مع الأعراق والديانات المختلفة لسكانها. وفى الوجوه جميعا، وكما توقع صديقى الأمريكى ــ الإيرانى، أهيم أنا كقارئ شغفا بالقاهرة وعشاقها.

إلى أن يأتى ٢٣ يوليو ١٩٥٢ ويطيح الضباط بالملكية ويعملون معاول الهدم فى الليبرالية فكرا وثقافة وسياسة ونشاطا اقتصاديا وتنوعا مجتمعيا وقبولا للآخر الدينى والعرقى، عندها ينقلب واقع ليون لنيادو وأسرته رأسا على عقب. تقهر جرائم نزع الملكيات الخاصة التى ورط بها «حكام يوليو» مؤسسات وأجهزة الدولة (وعرفت آنذاك بإجراءات التمصير وسياسات التأميم) العديد من الأسر ذات الأصول الأجنبية، وتجبرها على مغادرة ديار سكنتها وأماكن اعتادت عليها ووطن لم تعرف غيره وعبور البحر المتوسط بحثا عن ملاذات آمنة فى أوروبا التى لم تكن بلدانها قد تعافت بعد من الدمار الذى أحدثته بها الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ــ١٩٤٥). بشدة وبسرعة، تتقلص بفعل تلك المغادرة المشينة أعداد الجاليات ذات الأصول الأجنبية المقيمة، وتتراجع الطبيعة الكوزموبوليتانية للمدن المصرية، وتتغير بالتبعية البيئة المجتمعية المحيطة باليهود. ثم يسقط بعضهم ضحايا لجرائم نزع الملكيات الخاصة، وتضيق مؤسسات وأجهزة الدولة على آخرين بتعقب أمنى وضغوط قانونية واقتصادية مستمرة، فيجبرون أيضا على مغادرة البلاد.

***

يهجر اليهود فى الخمسينيات والستينيات من وطنهم مصر الذى فتح لهم فى خواتيم القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ذراعيه الحانيتين لحمايتهم من الاضطهاد فى الشرق وجنون النازية القاتل فى الغرب. وللتدليل على أن مصائر الاضطهاد والقتل مست أيضا ليون لنيادو، يشير الكتاب إلى قتل النازيين لأخته، بهية، ومعها زوجها وطفلتها فى معسكر القتل الجماعى أوسشيفتز بعد أن رحل ثلاثتهم من ميلانو الإيطالية التى سكنوها فى الثلاثينيات والأربعينيات. أما ابن بهية، سليمان، فنجا من المصير الأسود لأنه عاش مع خاله ليون وجدته ظريفة فى القاهرة، فى مصر المتسامحة. يهجر اليهود، هذه هى العبارة الوحيدة الممكنة هنا أخلاقيا ومجتمعيا، ويدفعهم «حكام يوليو» ظلما إلى الارتحال شرقا (إسرائيل) وغربا (إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية) وشمالا (كندا) وجنوبا (أستراليا وأمريكا اللاتينية). وسط كل ذلك البؤس، يصمد ليون لنيادو ومعه أسرته فى وجه الاضطهاد والتهجير متشبثا بعشقه للقاهرة ولتسامح أهلها، ومتمسكا بجولاته اليومية فى شوارعها بين المعابد للصلاة والمقاهى لاختزان بقايا الأربعينيات الجميلة، ومقاوما لأصوات أخوته وأقاربه التى تلح عليه لمغادرة البلاد التى لم تعد بلادهم. تتدهور الأوضاع المالية للرجل ذى البدلة البيضاء الشركسكين بعد أن كسدت تجارته، يمر بأزمة صحية طاحنة لا يتعافى منها أبدا، يلحق بابنته الصغيرة لوسيت (المؤلفة) مرض غامض يعجز الأطباء عن تشخيصه وعلاجه، يتذمر الأبناء الكبار طلبا للرحيل وللبدايات الجديدة فى مكان لا يتعقبون به؛ ومناوراته للبقاء فى مصر تتواصل دون هوادة.

غير أن مقاومة ليون لنيادو تنهار فجأة، وتتعطل جميع مناوراته فى ١٩٦٣ حين «تلفق» لابنته الكبيرة (سوزيت) جريمة أخلاقية ويدخل التعقب الأمنى والقانونى لأسرته فى مرحلة أشد انحطاطا تختلط بها «أفعال السلطات» مع اعتبارات اجتماعية كسمعة الأسرة ومكانتها. يسرد كتاب لوسيت لنيادو المتيمة بأبيها مظهرا وجوهرا، كيف تحرك الرجل بسرعة لتصفية وجودهم فى القاهرة إن بإنهاء أعماله أو ببيع القليل المتبقى من ممتلكاتهم، تحديدا شقة الأسرة فى شارع الملكة نازلى. قبل التهجير من مصر، تنقلنا المؤلفة، بلغة حزينة استدعت فى أذنى عويل المواكب الجنائزية فى الصعيد، إلى المشاهد الأخيرة لأسرة لنيادو فى القاهرة. شراء لحقائب، بحث عن ملابس مناسبة لشتاء أوروبا قارس البرودة (فمحطة الأسرة الأولى بعد التهجير من مصر كانت فرنسا)، لقاء فى معبد يهودى مع الأصدقاء القليلين الذين لم يغادروا البلاد بعد وليون الأنيق يرتدى للمرة الأخيرة بدلته البيضاء الشركسكين، الأب الخائف على حياة أسرته فى الخارج يسرف فى شراء المؤن الغذائية ويزج بها إلى داخل حقائب السفر لكى يبعد شبح الجوع عن زوجته وأولاده، خطط عديدة يفكر بها ليون للتحايل على القرارات الرسمية التى تحظر على يهود مصر وهم يهجرون فى استكمال بشع لجرائم نزع ملكياتهم الخاصة نقل أى متعلقات شخصية ذات قيمة مالية مرتفعة كالمجوهرات وتستثنى فقط الملابس وقطع الأثاث المنزلى محدودة القيمة المالية ومبالغ من المال زهيدة للغاية، ثم قرار من الأب بالتخلى عن جميع هذه الخطط خوفا من العواقب الخطيرة للانكشاف أمام مفتشى الجمارك الصارمين. مشاهد مؤلمة لمواطنين مصريين حولهم ظلم حكام يوليو إلى مذعورين يخشون التعقب، وفارين من ديارهم وبلادهم قسرا، ومجبرين على التخلى عما يملكون حقا وقانونا وشرعا لدرء خطر الاصطدام بالسلطات. تغادر أسرة لنيادو القاهرة إلى الإسكندرية بحقائبها الكثيرة. يخرج ليون وابنته لوسيت لوداع الكورنيش الجميل للمدينة، وتجمعهم بنفر من مرتادى مقاهيها لحظات بالغة الدفء الإنسانى. يصلون إلى سطح السفينة ستعبر بهم إلى الجهة الأخرى من البحر المتوسط، يصلون ومعهم حقائبهم التى لاحقا ستحترق فى شقة بحى فقير من أحياء مدينة نيويورك. يجبرهم «المفتشون» على التوقيع على إقرارات عدم العودة، لكى تكتمل حلقات التهجير البائسة. تتحرك الباخرة، وعندها ينهار «الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين» فى عويل لا ينقطع ولا يفهم منه سوى كلمتى رجعونا مصر.

***
لم يعد ليون أبدا إلى مصر، مات فى الولايات المتحدة الأمريكية بعد سنين طويلة غابت عنها البدايات الجديدة ولم يجمع بينها سوى معاناته من جريمة التهجير وتعلقه بأمل عودة لم يتحقق. يا لقسوة الظلم، يا لرداءة الحكومات حين تقامر بمصائر الناس.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved