تطورات لاتينية مثيرة
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 21 أغسطس 2014 - 7:30 ص
بتوقيت القاهرة
لفت انتباهى فى الآونة الأخيرة تطورات تلازم وقوعها فى وقت واحد فى أمريكا اللاتينية. كان فى ظنى، وبقى، أنه لا يوجد ما يربط بينها، ولكنى مازلت غير واثق تماما من قوة مبررات هذا الظن، فلعل التطورات بالفعل مترابطة، أو لعلها تعكس حالات متناثرة فى القارة اللاتينية تمهد لتغيرات جديدة.
التطور رقم (1)
كانت مفاجأة، لى، أنا المتابع عن قرب لتطورات الأمور فى أمريكا اللاتينية، الوقفة التى وقفتها حكومات كثيرة هناك، ومعها الرأى العام لإعلان الدعم والتأييد لشعب غزة. تصادف، أو لعله من قبيل التناقض الصارخ، أن الحكومات العربية فى ذلك الحين كانت قد تأخرت فى إعلان دعمها وتشجيعها لشعب غزة. تصادف أيضا، وللغرابة الشديدة، أن الرأى العام العربى، المتعاطف عادة مع شعب فلسطين، لم يعبر عن عواطفه بأساليبه المعتادة أو خمدت بعض عواطفه تحت ضغوط ندر أن مر بمثلها.
بدأت ردود فعل أمريكا اللاتينية لحرب إسرائيل على شعب غزة بغضب فى الرأى العام، تبعه قرار من كل من البرازيل وشيلى وبيرو والسلفادور وإكوادور بسحب سفرائها من إسرائيل. كان للقرار رغم شكليته، صدى مدويا فى عواصم أوروبا وفى الولايات المتحدة، لأنه كان يعنى لفت الأنظار إلى حرب لا يريد الغرب أن تحظى باهتمام دولى كبير، لتنتهى بسرعة وفى هدوء.
وبالفعل توالت المواقف. أعلنت شيلى أنها توقف تبادلها التجارى مع إسرائيل. وفى 29 يوليو، انعقدت قمة دول منظمة «ميركوسور» الإقليمية ليصدر رؤساء الأرجنتين والبرازيل والأوروجواى وفنزويلا بيانا يعلنون فيه إدانتهم إسرائيل ويطالبون برفع الحصار فورا عن قطاع غزة.
وفى لاباز، وبالنيابة عن مجموعة «ألبا» أو ما يعرف بالبديل البوليفارى، أصدر إيفو موراليس رئيس بوليفيا بيانا قويا وصف فيه إسرائيل بأنها دولة إرهابية وطالب بمعاقبتها بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ومن ناحيتها، اعتبرت ميشيل باتشيليت، رئيسة جمهورية شيلى وصاحبة أقوى شعبية بين رؤساء القارة اللاتينية، ما حدث للاجئين الفلسطينيين أشبه ما يكون بما حدث لها شخصيا عندما نفاها الجنرال بينوشيه ديكتاتور شيلى إلى خارج البلاد، وتحدثت طويلا عن معاناتها كلاجئة فى دول غريبة.
لم يكن المجتمع المدنى فى أمريكا اللاتينية أقل حماسة واندفاعا، إذ تعددت المظاهرات ومظاهر أخرى من الدعم والتأييد من فئات متنوعة فى شعوب القارة، وخرج اثنان من الحائزين على جائزة نوبل، وهما بيريز إسكويفيل من الأرجنتين وريجو بيرتا منيتشو من جواتيمالا يطالبان بمعاقبة إسرائيل بالعقاب نفسه الذى عوقبت به جنوب أفريقيا على سياستها العنصرية.
التطور رقم (2)
ارتفعت فجأة أصوات كان الظن أنها اختفت أو خفتت، تطالب بفتح ملفات قضايا التعذيب وأعمال الاختطاف والقتل والتشريد التى ارتكبتها سلطات الحكم الديكتاتورى خلال فترة طويلة من الاستبداد فى عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية.
ففى الأرجنتين ثارت الزوبعة من جديد بعد أن هدأت لفترة هدوء متقطع منذ إعلان العفو العام عن جرائم التعذيب. ثارت عندما اكتشف شاب تجاوز الثلاثين من عمره إنه ولد فى زنزانة حيث توفيت والدته الحامل فيه خلال إحدى جلسات تعذيبها.
يجرى الآن تحت ضغط شعبى هائل البحث عن الأوراق والسجلات وأسماء الأشخاص الذين ارتكبوا جريمتى تعذيب المرأة وقتلها. هؤلاء لم يتوانوا عن التخلص من الطفل الرضيع بطريقة «قذرة». تحت ضغط الرأى العام اضطرت حكومة السيدة كريستينا فرنانديز إلى فتح التحقيق من جديد فى جميع قضايا الاختطاف والمختفين المعلقة. وما هى إلا أيام إلا وكانت عواصم أخرى فى أمريكا اللاتينية تتسابق على وقف العمل بقرار العفو العام، واستئناف التحقيق فى كافة جرائم التعذيب التى ارتكبت خلال عهود الحكم السابقة.
كان لافتا للنظر أن تتصدر السيدتان ميشيل باتشيليت وديلما روسيف أنباء فتح التحقيقات بالكشف عن مزيد من المعلومات عن التعذيب الذى مورس ضدهما كناشطات صغيرات فى عهد الحكم السلطوى.
عدنا نقرأ قصة «ستيلا» الاسم الحركى للآنسة ديلما التى اعتقلتها السلطات البرازيلية فى عام 1970. قضت ثلاث سنوات فى السجن، جرى خلالها تعذيبها، بتعريضها لصدمات كهربائية على أذنيها وقدميها وعلى صدرها. أجبروها على تمثيل دور الببغاء بأن تقف على رأسها وقدماها إلى أعلى وهى عارية تماما ومربوطة إلى لوح من الخشب. كان عمرها وقتها 22 عاما وهى الآن 64 عاما ورئيسة لجمهورية البرازيل.
أعيد فتح ملف الموضوع، واستدعت لجنة تحقيق شُكلت حديثا السيد ماوريسيو لوبيز ليما، العقيد المتقاعد الذى أشرف بنفسه على تعذيب الآنسة ديلما. والطريف فى القصة أن السيد لوبيز ليما يقود فى الوقت الحالى حملة تطالب برفع الظلم الواقع على المتهمين بإجراء عمليات تعذيب خلال الفترة من 1964 إلى 1985، ويطالب بتنفيذ العفو العام الصادر عام 1979 وهو القانون الذى شرع ليحمى العسكريين خاصة من محاكمات التعذيب. أما الرئيسة ديلما، التى تجاوزت شعبيتها نسبة 77٪ بسبب سياساتها الاجتماعية وبخاصة تجاه الفقراء، فقد خرجت عن صمتها الطويل لتتحدث عن أيام محنتها فى التعذيب. قالت «شعرت بالخوف عندما أحسست بجلدى يرتعش حين لامس رجل التعذيب جسدى، وقد بقيت معى الى اليوم هذه الرعشة كلما شعرت بالخوف». وفى غمرة الاهتمام الإعلامى سأل صحفى برازيلى أحد المتهمين بالتعذيب إن كان حقا جرى التعذيب فى ذلك الحين كما يحكى الأحياء من الشهود، فأجاب بنعم. عاد الصحفى فسأله إن كان التعذيب مازال يمارس. أجاب بنعم. ومع ذلك فقد بادرت ديلما بالتبرع بمبلغ عشرة آلاف دولار لحركة أطلقت على نفسها اسم «لا للتعذيب بعد الآن». الجدير بالذكر أنه بعد الإعلان عن التبرع هاجمت عناصر مجهولة مقر الحركة ودمروا محتوياته واحرقوا سجلاته ووثائقه.
•••
على الناحية الأخرى من القارة، وفى أقصى جنوبها الغربى عاشت طالبة جامعية تدرس الطب واسمها ميشيل. جرى اعتقالها بتهمة الانتماء إلى تنظيم يسارى، وتعرضت خلال فترة الاعتقال للتعذيب. تقدر مؤسسات الأمم المتحدة عدد الذين اختفوا فى شيلى فى السنوات التالية للانقلاب الذى أسقط حكومة سلفادور آيندى فى 11 سبتمبر 1973، بحوالى 3200 شخص بينما تعرض للتعذيب ما يزيد على 38.000 شخص. ومازالت منظمات المجتمع المدنى تحقق بحثا عن المختفين، وبخاصة بعد أن أعلن قبل أيام قليلة عن اكتشاف عظام بشرية بقرية ملاصقة لمعسكر فى وسط شيلى. ولم تجد السلطات الشيلانية وعلى رأسها السيدة باتشيليت بدا من إعادة فتح التحقيق فى ملفات كان الظن أنها أغلقت نهائيا.
التطور رقم (3)
خرجت تقارير متعددة من أمريكا اللاتينية ومن الولايات المتحدة تلمح إلى أن بعض جيوش أمريكا اللاتينية بدأت تستعرض عضلاتها، بعد فترة طويلة من الكمون والبعد عن الأضواء السياسية.
يشير المحللون، وأتفق مع بعض تحليلاتهم، إلى أن للظاهرة أسبابها الوجيهة. إذ حدث خلال السنوات الأخيرة أن عمت الفوضى أنحاء عديدة من مجتمعات أمريكا الجنوبية وبخاصة دول أمريكا الوسطى. كانت أهم علامات هذه الفوضى الزيادة الرهيبة فى إنتاج المخدرات وتجارتها وتهريبها والزيادة المريعة أيضا فى الجريمة، سواء المنظمة أو العادية. يختطفون الأطفال لتدريبهم على تهريب المخدرات ويوظفون الشباب فى عصابات إجرامية لخطف الميسورين وطلب فدية لإعادتهم، وللاستيلاء على أموال المارة فى الشوارع وهتك الأعراض.
تقول التقارير إن الناس هجروا الشوارع إلا لقضاء حاجات سريعة وضرورية، والكثيرون صاروا يطالبون بنزول قوات الجيش إلى الشارع لتحل محل أجهزة الشرطة الفاسدة والمتواطئة مع عصابات المخدرات والجريمة ومع رجال السياسة. يضيف المحللون أسبابا أخرى، منها على سبيل المثال، أن الناس تعودوا خلال السنوات القليلة الماضية على رؤية الجيش وهو يقوم بمهام هى من صميم عمل الشرطة، مثل حماية تجار المخدرات ومزارع ومعامل الإنتاج. تقول جوكوسكى الأستاذة بمدرسة البحرية الأمريكية فى مونتيرى بكاليفورنيا والمتخصصة فى العلاقات المدنية العسكرية، إن الناس مازالت تعتقد فى أن الجيش غير قابل للإفساد على عكس الشرطة، ويقول بينيتيز Benitez الأستاذ بالجامعة الحرة فى الأرجنتين إن الشعوب عادت ترتاح لرؤية جندى الجيش فى الشارع يحمل مدفعه الرشاش.
•••
أعود فأقول إن اجتماع هذه التطورات اللاتينية قد لا يزيد عن كونه مصادفة. ومع ذلك يبقى عندى هاجس يلح. هناك رابط لا أراه.