طالبان والولايات المتحدة ونحن
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 21 أغسطس 2021 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
دخول حركة طالبان العاصمة الأفغانية كابول واستيلاؤهم على السلطة فيها أزاح خلال الأسبوع الماضى كل ما عداه من أحداث فى الأخبار وفى النقاش العام لدى المهتمين بالشئون العامة فى العالم أجمع، وفى منطقتنا العربية، وفى مصر تحديدا. أوجه كثيرة تعرض لها النقاش العام من أثر انتصار طالبان على المرأة فى أفغانستان وإهانتهم لها، إلى الصورة الجديدة التى يريد الطالبان تسويقها لأنفسهم، إلى موقفى الصين وروسيا منهم، وغير ذلك كثير. غير أننا سنعنى فى مقالنا هذا بوجهين اثنين، الأول هو مدلولات تزامن سقوط كابول فى أيدى طالبان مع انسحاب القوات الأمريكية، والثانى هو الأثر الذى يمكن أن يترتب على منطقتنا من وجود طالبان فى الحكم فى أفغانستان. فى أثناء استعراضنا المختصر للوجهين، سنتناول بالتعليق أيضا مبدأ انسحاب الولايات المتحدة نفسه الذى استنكره غير قليل من المراقبين، سواء صراحةً أو ضمنيا.
الانسحاب الأمريكى بدأ فى شهر مايو الماضى، وفى 8 يوليو أعلن الرئيس الأمريكى جو بايدن أن الانسحاب سيكتمل بنهاية شهر أغسطس الجارى. بمجرد بدء الانسحاب، انتقلت حركة طالبان إلى الهجوم. بحلول شهر يوليو كان عدد الوحدات الإقليمية التى تسيطر عليها قد ارتفع من 73 إلى 223. واعتبارا من 6 أغسطس شن الطالبان هجوما للاستيلاء على عواصم المقاطعات، فوقعت جميعها تباعا، باستثناء واحدة، دون مقاومة حتى دخلوا كابول التى كان قد فرّ منها الرئيس الأفغانى أشرف غنى وحكومته. كانت التقديرات هى أن ينجح الطالبان فى مسعاهم بحلول الربيع القادم أو بنهاية العام الجارى على أقل تقدير، ولكنهم فى النهاية حققوا مبغاهم فى تسعة أيام لا غير. الأخبار حملت صورا لفوضى انسحاب الولايات المتحدة من مطار كابول فذكّرَت بمشاهد الانسحاب الأمريكى من سايجون من زهاء خمسين عاما. الاتفاق انعقد على أن هذه الصور كافية للدلالة على هزيمة الولايات المتحدة أمام الطالبان، بشكل شبيه باندحارها فى فيتنام. الرئيس الأمريكى لم يعترف بالطبع بهذه الهزيمة، وهو فى 16 أغسطس اتخذ كمعيار للحكم على انسحاب القوات الأمريكية أنها حققت ما ذهبت إلى أفغانستان أصلا لتحقيقه ألا وهو ألا تتعرض الولايات المتحدة لهجوم إرهابى جديد كذلك الذى أصابها يوم 11 سبتمبر 2001. الرئيس بايدن نفذ الاتفاق الذى توصل إليه سلفه الرئيس دونالد ترامب مع الطالبان فى الدوحة فى فبراير سنة 2020. بمقتضى اتفاق الدوحة، فى مقابل الانسحاب الأمريكى، تعهد الطالبان بألا يسمحوا بتنظيم اعتداءات إرهابية ضد الولايات المتحدة وبألا يأووا حركة القاعدة فى أراضى أفغانستان. بعبارة أخرى، الولايات المتحدة، على عهدى رئيسين متتاليين ومتناقضين فى أسلوبيهما السياسيين، سلّمت بأن الطالبان سيستولون على السلطة فى أفغانستان واكتفت بتعهداتهم بصون سلامتها. لموقف الرئيسين الأمريكيين ما يبرره من وجهة نظر أمريكية. الرئيس بايدن فى كلمته المذكورة قال إنه لن يضحى بقتلى جدد من الشباب الأمريكيين فى بلد لا تريد قواته العسكرية أو الأمنية أن تقاتل طالبان من أجل الحفاظ على النظام السياسى الأفغانى الذى نشأ فى ظل الوجود العسكرى الأمريكى. الادعاء ليس سليما ففى مقابل سقوط 2400 جندى أمريكى، حاربت القوات العسكرية والأمنية الأفغانية وفقدت ستة وستين ألفا من عناصرها. ولكن بالفعل لماذا تبقى الولايات المتحدة فى أفغانستان إذا كانت نتيجة وجودها فيها بعد عشرين عاما وإنفاق 2 تريليون دولار هو سقوط النظام السياسى الذى أنشأته وفرار رئيسه حتى من قبل اكتمال الانسحاب الأمريكى؟ لا يبدو من قبيل الشطط اعتبار أنه لو بقيت الولايات المتحدة لعشرين أو لخمسين سنة أخرى فى أفغانستان، فالنتيجة ستكون نفسها. بعدها ستبقى الولايات المتحدة على عدم اعترافها بهزيمتها، وسترحل تاركة أفغانستان لتواجه مستقبلها ومصيرها. أليس من الأفضل ألا تفقد أفغانستان، وألا يضيِّع الأفغان، عقدين أو خمسة عقود جديدة من الزمان وأن يبدأوا من الآن مواجهة مشكلاتهم المعقدة، وجوهرها بناء دولة قومية موحدة فى ظل تركيب عرقى وتقاليد تاريخية هى تحديات هائلة لنفس مفهوم الدولة القومية؟ الطالبان زادوا المشكلات تعقيدا على تعقيد عندما قدموا العقيدة الدينية على الرباط القومى. الدين لا يتعارض مع الدولة القومية، بل إن حرية اعتناقه وممارسته واجبة وهى يمكن أن تدعم هذه الدولة. غير أن الدين سيتعارض مع الدولة القومية إذا اعتبر هو الأساس لقيام هذه الدولة. الدولة إما أن تنشأ على أساس الدين، كما كانت فى غابر الأزمان، وإما أن تنشأ على أساس القومية. الدولة القومية نشأت كمفهوم وممارسة بعد أن تسببت الصراعات بين الدول القائمة على أساس الدين فى تناحرات وحروب مستمرة. الصراعات والحروب الوحشية والمدمرة نشأت أيضا بين القوميات ودولها، ولكن هذا موضوع آخر غير ذلك الذى يهمنا اليوم.
•••
أما عن أثر استيلاء الطالبان على السلطة فى أفغانستان على منطقتنا العربية وعلى مصر فيها، فالتخوف هو من أن تتحول أفغانستان، على الرغم من الوعد الذى قطعه الطالبان للولايات المتحدة، أو بسببه، فالوعد هو بألا تُنَظّمَ فى الأراضى الأفغانية اعتداءات إرهابية ضد الولايات المتحدة تحديدا وليس ضد أى طرف آخر، الخوف إذن هو من أن تتحول أفغانستان إلى قاعدة للإرهاب تنطلق منها العمليات الموجهة لمصر وغيرها من الدول العربية. التخوف له ما يبرره على ضوء تجربة نهاية التسعينيات من القرن الماضى بعدما وصل الطالبان إلى الحكم فى سنة 1996، وقبل أن تضطرهم القوات الأمريكية إلى الخروج من كابول فى أعقاب 11 سبتمبر. ولكن هل المنطقة اليوم هى نفسها ما كانت عليه فى التسعينيات من القرن الماضى؟ فى التسعينيات كان ثمة ثلاث دول معترفة بحكومة الطالبان، والأهم تقيم علاقات ودية معها، هى باكستان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ليس واضحا بعد الموقف الذى ستتخذه باكستان بعد استيلاء الطالبان على السلطة فى الأسبوع الماضى، فعلاقاتهم بباكستان متشابكة ومركبة، ولكن ليس من المغامرة القول بأن السعودية والإمارات لن تعودا إلى سابق عهدهما وأنهما لن تساندا الطالبان كما فعلتا فى التسعينيات. والتغير فى السلوك فى المنطقة لن يكون قياسا بما كان عليه فى التسعينيات فقط، بل وبما كان عليه فى نهاية السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى أيضا. فى تلك الحقبة أسىء استخدام الدين الحنيف وتدعمت أسس الإسلام السياسى العنيف. الرباط الإسلامى، وبتشجيع من الولايات المتحدة، اعتبر هو الأساس والمبرر للمساندة المقدمة من بعض دول المنطقة «للمجاهدين» ضد القوات السوفيتية التى دخلت أفغانستان فى سنة 1979 لدعم النظام اليسارى الذى نشأ فيها فى السنة السابقة. لاحظ استخدام مصطلح «المجاهدين» ذى الإيحاء الدينى وليس مصطلح «المقاومة الوطنية» مثلا. إذا قُبِلَ مبدأ المساندة فكان يمكن تبريرها بالدفاع عن الدولة القومية أو الوطنية فى أفغانستان، ولكن هذا لم يحدث. لدى نهاية السبعينيات، زعيم من الزعماء وعد «المجاهدين» بالوقوف معهم «بكل ما فى الإسلام من قوة». وكلما أوغل التفسير الدينى فى تطرفه كان ذلك أفضل فى أعين من قدموا المساندة، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، لأن التطرف فى تفسير الدين يعمِّق التناقض مع الشيوعية، وبذلك هو يضرب فى أعماق أسس الاتحاد السوفيتى. «المجاهدون» من عندنا لقوا التشجيع على أن يسافروا إلى أفغانستان للانضمام إلى صفوف «الجهاد» فيها، وأدّى ذلك بشكل مباشر وغير مباشر إلى انتشار التفسيرات الدينية المتطرفة فى بلادنا. انتشار هذه التفسيرات كان الحاضنة التى ترعرعت فيها الجماعات المتطرفة بعملياتها الإرهابية فى مصر تحديدا فى التسعينيات من القرن الماضى ثم فى العقد الأخير. الوضع تغير الآن فى المنطقة فيما يتعلق بالود تجاه الطالبان، كما سبقت الإشارة، ولكن هذا لا يكفى لدرء أى احتمالات للعودة إلى الإرهاب، وخاصة للاستمرار فيه. الحلُّ ليس فى بقاء الولايات المتحدة فى أفغانستان. التفسيرات المتطرفة لكل الأديان والأفكار موجودة فى كل مكان. علاجها هو فى إبعادها عن المجرى الرئيسى للمجتمع والثقافة والسياسة. هذا الإبعاد لا ينجح بالعمليات الأمنية أساسا، بل هو ينجح بحصار هذه الأفكار فى ركن منزوٍ من كل من المنظومة الاجتماعية والثقافية والسياسية. والحصار لا يتأتى عن تقييد التفسيرات والأفكار وقمعها، بل عن التشجيع على إنتاجها وتكاثرها وتعدد المعروض منها. الحرية فى إنتاج الأفكار هى خير حصن لمقاومة التطرف والإرهاب الناشئ عنه، سواء رعاه الطالبان، أو احتضنه غيرهم، أو نبت من البيئة المحلية لأى بلد.
•••
نرجع إلى مدلولات تزامن استيلاء الطالبان على الحكم مع انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان والفوضى الذى اتسمت به. باختصار، هذا التزامن، بل ونفس تمكُّن الطالبان، يكشفان عن الاخطاء فى التحليل والتقدير الذى تتسم بها سياسة الولايات المتحدة. هذه الأخطاء ليست جديدة. كوبا وفيتنام وأنجولا، ولوقت طويل جنوب أفريقيا، شواهد على هذه الأخطاء. فى نظر غير قليل من المحللين الأمريكيين، الموقف الذى تتخذه الولايات المتحدة من الصين فى الوقت الحالى، وشيطنتها، خطأ آخر. ونمسك عن ذكر بعض أخطاء سياساتها الداخلية. أما تنفيذ الانسحاب فهو ينم عن انعدام مدهش فى الكفاءة، شبيه بالخروج من سايجون كما سبقت الإشارة وبواقعة احتلال المتطرفين الأمريكيين لمبنى الكونجرس يوم 6 يناير الماضى.
استخلاص أخطاء الولايات المتحدة وعدم قدرتها على تنفيذ ما تزمع فعله يمكن أن يكون فيهما دروس لنا فيما يهمنا من قضايا مباشرة. ليس كل شىء تريده الولايات المتحدة قدرا محتوما لا فكاك منه. من أمثلة ما أرادته التسوية التى ابتدعها الرئيس ترامب للقضية الفلسطينية. مقاومة هذه البدعة ليست حماقةً. بالإضافة إلى أنها تمسُّك بالعدالة وبالحق، هى معقولة تماما ومن شأنها أن تؤتى ثمارها.
قد يسرع البعض فيعتبر أن من الأخطاء الأمريكية كذلك قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التى تزعم الولايات المتحدة الدعوة إليها. للقيم حياتها الخاصة. هى تنشأ عن تجارب الإنسان. الديمقراطية وحقوق الإنسان نشأت عن تجارب تراكمت عبر قرون وعصور كثيرة من قبل أن تنشأ الولايات المتحدة نفسها. الكشف عن أخطاء الولايات المتحدة والتنديد بسياساتها لا يقوضان الدعوة إلى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان فى بلادنا، بل هما يمكن أن تدعماها. والولايات المتحدة نفسها يمكن أن تحاسب على احترامها لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان من عدمه.
ونكرر ما أسلفناه. حرية إنتاج الأفكار وتداولها هى الحصن المنيع أمام التطرف والإرهاب، جاء من أفغانستان أو من غيرها.