من حافة الهاوية إلى وفاق جديد
إيهاب وهبة
آخر تحديث:
السبت 21 سبتمبر 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
لجأت الدول الكبرى فى مناسبات عديدة إلى الدفع بالأزمات التى قد تواجهها إلى حافة الهاوية بغية حمل الطرف المقابل على التراجع، إيثاراً للسلامة. لاشك أن الأزمة الكوبية عام 1962 كانت أشهر التطبيقات لهذه السياسة حيث هددت الولايات المتحدة بمهاجمة الصواريخ التى كان الاتحاد السوفييتى قد نصبها على الأراضى الكوبية إن لم يقم بسحبها على الفور. أذعن الاتحاد السوفييتى أمام هذا التهديد الذى كان يمكن أن يؤدى إلى حرب عالمية ثالثة. وفى مقابل ذلك تعهدت أمريكا بعدم مهاجمة كوبا، كما قامت بسحب صواريخها النووية التى كانت قد نصبتها على الأراضى التركية.
وكادت تقع مواجهة نووية بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة الأمريكية مع نهاية حرب أكتوبر 1973 عندما قامت الأخيرة برفع حالة الاستعداد القصوى فى جميع قواعدها على مستوى العالم، وقامت بتحريك سفنها وطائراتها، وذلك أثر تقارير تلقتها بأن الاتحاد السوفييتى قام بحشد فرقتين عسكريتين كى يحملا جواً إلى مصر بعد انتهاك إسرائيل المتكرر لوقف إطلاق النار الذى تم التوصل إليه من خلال قرار مجلس الأمن رقم 338. أمكن تفادى هذه المواجهة والتزمت إسرائيل بوقف إطلاق النار.
على الجانب المقابل لعلنا نذكر ذلك الإنذار الشهير الذى وجهه رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى بولجانين فى 5 نوفمبر 1956 إلى دول العدوان الثلاثى على مصر. تساءل بولجانين فى الرسالة التى بعث بها إلى القادة البريطانيين عما ستكون عليه حالة بريطانيا إذا ما هوجمت بقوة أكبر منها تملك كل أنواع الأسلحة المتقدمة والمدمرة؟ توقف العدوان وانسحبت القوات الغازية بعد ذلك ورسَّخت مصر سيادتها على قناة السويس وقامت ببناء السد العالى وإن كره الكافرون.
●●●
لا يختلف الأمر كثيراً عندما نرى الحشد الأمريكى على السواحل السورية. حشد لجأ إليه أوباما دون اقتناع حقيقى أو حماسٍ زائد. آية ذلك القرار المنفرد الذى اتخذه بالعودة إلى الكونجرس أولاً للحصول على موافقته، علماً بأن الدستور الأمريكى لا يملى عليه ذلك بالنسبة لهذه الضربة المحدودة التى هدد بها. حتى تلك الحملة الإعلامية التى شنها هو وكبار معاونيه للتسويق للضربة لم تقنع أحداً لا داخل الكونجرس أو خارجه وبدت مفتقرة إلى أية حجج أو براهين.
ما أن أعلن وزير الخارجية الروسى عن مبادرة لوضع الترسانة الكيماوية السورية تحت الرقابة الدولية تمهيداً لتدميرها، وإعلان سوريا قبول ذلك، تلقف أوباما الاقتراح على الفور (يبدو أن تفاهماً بين الزعيمين الروسى والأمريكى حول هذا الأمر كان محل بحث أثناء قمة العشرين)، وطلب الرئيس الأمريكى من الكونجرس تأجيل التصويت على تفويض شن الهجوم. وأعلن أن التوصل إلى حل سلمى، دون الحاجة إلى اللجوء للحرب، كان دائماً وأبداً خياره المفضل. تباهت الولايات المتحدة بالقول بأن حشد أسطولها على الشواطئ الأمريكية كان العامل الحاسم فى حمل سوريا على قبول المبادرة الروسية، الأمر الذى نفته سوريا بالطبع.
المهم أن العالم قد تنفس الصعداء بعد انزواء شبح الحرب ولو إلى حين. غير أن طرفين اثنين لم يرق لهما ذلك التطور. الطرف الأول كان الجيش السورى الحر الذى رأى أنه لم يتم استشارته فى كل ما حدث، كما أن الصراع فى سوريا قد اختزل فى التخلص من السلاح الكيماوى، علماً بأن عشرات الآلاف قد قضوا بأسلحة تقليدية. هذا فضلاً عن أنه من الواضح أن الأسد باق فى مكانه بل ربما أمدت أزمة الكيماوى فى عمر ولايته!
إسرائيل كانت الطرف الثانى الذى لم يرتاح للمبادرة الروسية، واعتبرت أن إفلات سوريا من الضربة قد تحمل رسالة طمأنة إلى إيران تشجعها على تطوير برنامجها النووى. واقع الأمر أن اللوبى الإسرائيلى فى الولايات المتحدة كان قد تم استنفاره بالكامل للضغط على أعضاء الكونجرس من أجل إعطاء الضوء الأخضر لأوباما لضرب سوريا. أما وإن ذلك لم يأت وتأجلت القرية برمتها، فقد تعالت الأصوات هناك بأن على إسرائيل أن تعتمد على نفسها، لا أن ترهن مصيرها بمواقف دولة أخرى حتى ولو كانت الولايات المتحدة. ومع ذلك المحصلة النهائية لهذه التطورات جاءت فى الحقيقة، وللأسف، فى صالح إسرائيل. تنازلت سوريا دون مقابل عن سلاح ردع هام طالما حرص العرب على أن يكون التنازل عنه فى إطار صفقة شاملة تشمل كل أسلحة الدمار الشامل التى تملكها إسرائيل، ويتم إعلان منطقة الشرق منطقة خالية من هذه الأسلحة المدمرة.
●●●
من ناحية أخرى لا يشكل هذا الموقف السورى الجديد سابقة تماماً، فقد تنازلت ليبيا طواعية عام 2003 عن كل إمكانياتها فى إنتاج أسلحة الدمار الشامل. أدى ذلك كما هو معروف إلى انفتاح غربى كامل عليها ورفع العقوبات التى كانت مفروضة عليها. يقودنا هذا إلى التساؤل عما إذا كان الموقف السورى الجديد وتخليها عن سلاحها الكيماوى قد فتح الباب بدوره أمام انفراجة فى الأزمة الطاحنة فى سوريا، وحوَّل هذا التنازل إلى منطلق إيجابى نحو جهود أكثر رحابة، وأبعد مدى، تتعاون فيه كل الدول المؤثرة لوضع نهاية للمواجهات القائمة على الساحة السورية.
فاللمرة الأولى منذ بداية الأزمة السورية تتفق كل من روسيا والولايات المتحدة، بعد مباحثات مكثفة فى جنيف، على القيام بعمل مشترك للتخلص من الترسانة الكيماوية السورية تحت إشراف دولى. بالإضافة إلى ذلك حرص الاتفاق على الإحالة إلى ما تم التوصل إليه فى قمة الثمانية التى عقدت فى أيرلندا الشمالية فى يونيو الماضى، من ضرورة مضاعفة الجهود الدبلوماسية من أجل حمل كل الأطراف على الجلوس على مائدة التفاوض فى أقرب وقت ممكن. لا شك أن المبعوث العربى والدولى السيد الأخضر الإبراهيمى، الذى كان متواجداً فى جنيف، قد لعب دوراً هاماً من أجل الدفع فى اتجاه عقد مؤتمر جنيف (2) الذى طال انتظاره.
من ناحية أخرى أصبح اضطلاع مجلس الأمن بدوره فى التسوية الخاصة بالسلاح الكيماوى فى سوريا من العناصر الأساسية التى تأسس عليها الاتفاق. بل أن البيان الذى صدر عن الجانبين نص صراحة على إمكانية لجوء مجلس الأمن إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، إذا ما جرى الإخلال بالاتفاق (أوضح وزير الخارجية الروسى أن ذلك لا يعنى اللجوء إلى العمل العسكرى إنما تُطَبَّق الإجراءات الأخرى الواردة بالفصل المذكور التى لا تصل إلى مستوى اللجوء إلى القوة).
●●●
إذن فنحن أمام وضع مختلف تماماً الآن قد يعيد إلى الأذهان سياسة الوفاق التى تبنتها كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى فى سبعينيات القرن الماضى. تراجعت الولايات المتحدة عن الدفع نحو حافة الهاوية، وإن احتفظت بهذا الخيار إذا لزم الأمر، وبرز الدور الروسى فى القيام بدور فعال وطرح المبادرات والتوصل إلى تفاهمات وإرساء قواعد للتعاون مع القطب المقابل، بالإضافة إلى عودة مجلس الأمن ليلعب دوره المقرر فى ميثاق الأمم المتحدة فى الحفاظ على الأمن والسلم العالمى. لاشك أن ذلك كله ينعش الآمال فى إمكان التوصل إلى انفراجة فى المعضلة السورية، بعد أن أنهكت الحرب الدائرة فيها الجميع.
مساعد وزير الخارجية الأسبق للشئون الأمريكية