أبى أحمد أمين.. والإخوان المسلمون
جلال أمين
آخر تحديث:
السبت 21 سبتمبر 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
وقعت أحداث هذه القصة منذ سبعين عاما، وكنت فى الحادية عشرة من عمرى، ولكننى مازلت أذكر بعض تفاصيلها بوضوح. كان أبى (أحمد أمين) كاتبا مرموقا، اشتهر على الأخص بكتبه عن تاريخ الحياة الفكرية فى الإسلام، وقد شبه هذا التاريخ بتطور يوم كامل، فسمى الجزء الأول فجر الإسلام، والثلاثة التالية ضحى الإسلام، ثم أربعة أجزاء بعنوان ظهر الإسلام، ولخصها كلها فى كتاب واحد أخير سماه (يوم الإسلام).
كان أبى، عدا كونه عالما ومؤرخا كبيرا، رجلا حكيما هكذا أراه ويراه معظم تلاميذه وقرائه (هل من الممنوع ان يمتدح المرء أباه؟).. والصفتان لا تجتمعان دائما: فقد يكون الشخص عالما كبيرا دون ان يكون حكيما، والعكس صحيح أيضا، وكان من سمات الحكمة عند أحمد أمين (فى رأيى) أنه كان يعلق أهمية كبيرة على أثر تطور الظروف الاجتماعية على سلوك الناس وأفكارهم ولهذا كان أبى يرى، ويعيد ويكرر، ضرورة «الاجتهاد» فى تفسير الدين، أى ضرورة ان يواكب تفسير قواعد الدين، هذا التطور فى الظروف الاجتماعية.
كانت هذه الفكرة (تطور الظروف الاجتماعية وضرورة الاجتهاد) التى يتكرر التعبير عنها فى كتبه ومقالاته، بما فى ذلك تأريخه للحياة الفكرية للإسلام، من الأسباب الرئيسية لنجاح الكتاب وحسن استقباله وانتشاره. وقد كان هذا النجاح نتيجة أيضا لطبيعة المناخ الاجتماعى والثقافى الذى كان سائدا فى مصر فى فترة ما بين الحربين العالميتين. كانت الطبقة المتوسطة المصرية متعلمة تعليما راقيا وراضية عن نفسها، ولم تصب بما أصابها فيما بعد من تشنج فكرى. وأنا أفسر بذلك استعدادها لقبول هذا الموقف الحكيم من جانب أبى وزملائه (طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم... الخ).
كانت هذه الفترة هى أيضا فترة نشوء ونمو جماعة الإخوان المسلمين. كان مؤسسها (الشيخ حسن البنا) ينتمى إلى هذه الطبقة، ومن ثم كان يتفوق (فيما يبدو لى) فى موقفه من الاجتهاد، على الموقف الذى اتخذه خلفاؤه فى قيادة هذه الجماعة فيما بعد، ولهذا لم يكن غريبا (فى ذلك الوقت) أن ينشر الشيخ حسن البنا فى جريدته مقالا يحمل بالخط الكبير عنوان «خطاب مفتوح إلى الأستاذ أحمد أمين» يثنى فيه على مؤلفات أبى عن تاريخ الإسلام ويدعوه للانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين.
ان مثل هذا المقال كان ليبدو غريبا جدا لو نشر الآن، ولكنه كتب ونشر منذ نحو سبعين عاما، (وأظن أن سنة نشره كانت 1946). وكان رد أبى كما أذكره، (وان لم يكن قد نشر فى مقال كرد مباشر على مقال الشيخ البنا) أن رفض العرض فى أدب، ولكنه أضاف أن رأيه (الذى عبر عنه فى مناسبات مختلفة بعد ذلك) ان جماعة الإخوان المسلمين كان يجدر بها ان تقتصر على نشر الدعوة للإسلام، والعمل فى مجالى الأخلاق والخدمة الاجتماعية، وان يبتعد عن السياسة، لأن إقحام الدين فى السياسة يفسد السياسة والدين على السواء.
ان ما حدث خلال السبعين عاما التى انقضت على هذه الواقعة، تؤيد فى رأيى، أن أبى فى هذا كان على صواب. ولكن الموضوع جدير بأن يثار الآن من جديد، فى وقت يكثر فيه الكلام عن جواز استخدام الخطاب الدينى فى الدعاية السياسية، وعن الاقصاء أو المصالحة، كما تثور فيه فكرة حل جماعة الإخوان المسلمين...الخ.
اننى لا أشعر بالارتياح لفكرة حل الجماعة، وان كنت أؤيد بشدة ضرورة الاصرار على ان تلتزم الجماعة بحدود الدعوة الدينية والعمل فى مجالى الأخلاق والخدمة الاجتماعية، ولا استسيغ ان يستخدم الخطاب الدينى فى الدعاية الانتخابية وفى تأييد مرشح ضد مرشح آخر، كالذى رأيناه من استفتاء مارس 2011، مرورا بانتخابات مجلس الشعب فى نفس السنة، ثم فى انتخابات رئيس الجمهورية فى 2012، وفى خطب تصريحات الرئيس المنتمى للإخوان المسلمين وقادة الجماعة فى السنة التالية لانتخابه.
الدين شىء أجمل وأعظم من أن يقحم فى السياسة، ولكن الديمقراطية التى يتمسح بها جميع السياسيين، تفسد أيضا بإقحام الدين فيها. نعم ما أجمل ان يتحلى السياسيون بالأخلاق التى تدعو إليها الأديان السماوية، ولكن الخطاب الدينى إذا دخل السياسة نادرا ما يتحلى بهذه الأخلاق، وما أسرع ما يتحول إلى تعصب وتشنج وشجار وسب وقذف مما نراه كل يوم الآن، ومما يصعب معه أن نتصور استمرار روح التسامح وتبادل الرأى ومقارعة الحجة بالحجة مما يمثل صميم الفكرة الديمقراطية.
الذى شهدناه خلال فترة العامين ونصف العام الماضية (ورأينا أيضا قبل ذلك) خطابا دينيا يسوده إصرار مدهش على ان صاحبه يحتكر تعريف «شرع الله»، ورفض عنيف (كثيرا ما يتجاوز الأدب) لأى فهم آخر أو تفسير مختلف. وكثيرا ما يصل هذا الادعاء باحتكار تمثيل الإرادة الإلهية إلى حد وصف أى مخالف «بالكفر». والاتهام بالكفر موقف شديد العنف لا يختلف فى القسوة عن الضرب أو القتل، ومن ثم فهو موقف معاد تماما لجوهر الديمقراطية. لابد إذن من الاختيار بين الديمقراطية وبين استخدام الخطاب الدينى فى السياسة، ولا تصبح الدعوة إلى المصالحة أو التقريب بين وجهات النظر إذا كان أحد الأطراف يصر، ليس فقط على أنه وحده يحتكر الحقيقة، بل وعلى أنه هو الذى يحتكر فهم المقصود «بشرع الله».
من المدهش ذلك الموقف الذى يتخذه اليوم كثير من السياسيين ووسائل الإعلام فى الغرب، مما وقع فى مصر منذ 30 يونيو الماضى والذى ترتب عليه «إقصاء» أصحاب الخطاب الدينى عن السلطة. اننى أولا لا أفهم لماذا كل هذه المعاداة لفكرة «الاقصاء» فى أعقاب ثورة شعبية ناجحة، بينما لا يمكن تعريف أى ثورة ناجحة إلا إذا تضمنت معنى الإقصاء. كل ثورة تقصد استبعاد نوع معين من الحكام أى اقصاءهم، سواء كانوا اقطاعيين أو ديكتاتوريين مستبدين علمانيين، أو حكاما يدعون احتكار تفسير وتنفيذ الإرادة الإلهية. إذا خرج الناس بالملايين فى ثورة على أى نوع من هؤلاء الحكام، فهم يطلبون «إقصاءهم» عن الحكم لأنهم يعتبرون حكمهم ظالما ومستبدا.
كذلك فإننى أشعر بالدهشة الشديدة من ان يصدر هذا التأييد لأصحاب الخطاب الدينى المتعصب، بحجة الدفاع عن الديمقراطية، من جانب ممثلى حضارة اقترنت نشأتها ابتداء، ودفاعها عن الحرية والديمقراطية بالثورة على الخطاب الدينى المتعصب، والمعادى للحرية والعلم على السواء، والذى تمثل فى ادعاء الكنيسة احتكار تفسير الإرادة الإلهية وادعاء الملوك أنهم ظل الله على الأرض. ما الذى يدفع الممثلين المعاصرين لهذه الحضارة إلى أن يرفضوا ان نتخذ نحن نفس الموقف الذى اتخذوه هم منذ ثلاثة قرون، غير النفاق من أجل تحقيق مصالحهم الأنانية.