ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى
محمد الهوارى
آخر تحديث:
السبت 21 سبتمبر 2019 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
فى منتصف عام ٢٠١٦ صوت الانجليز للخروج من الاتحاد الأوروبى وشرعت الحكومة الإنجليزية فى اتخاذ خطوات لتنفيذ هذا الخروج الصعب. والذى تكمن صعوبته فى أنه طلاق شديد التعقيد بين جهتين متداخلتين ومعتمدتين على بعضهما البعض منذ سنوات طويلة. وبالفعل منذ اللحظة الأولى لتصدى رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماى لمعضلة البريكزيت وظهرت التحديات والتشابكات. وبينما استطاعت ماى الاتفاق على كثير من نقاط الخلاف وقرر الطرفان ترك بعض النقاط للاتفاق عليها لاحقا، وقفت المفاوضات عند مشكلات قليلة ولكن عويصة أهمها على الاطلاق موقف الحدود الأيرلندية وهى نقطة الالتقاء بين الحدود الأوروبية والبريطانية. خسرت تيريزا ماى، رئيسة الوزراء الوفية والشجاعة، مركزها بسبب عدم قدرتها للوصول لاتفاق نهائى وجاء بعدها أحد قادة البريكزيت وهو بوريس جونسون صاحب الكاريزما والشعبية. جاء بوريس على خلفية تصادمية تهدد إما بالاتفاق أو الخروج بدون اتفاق قبل انتهاء المهلة المحددة من الاتحاد الأوروبى فى ٣١ أكتوبر. ولكن جيريمى كوربين وحزبه المعارض لم يمكنه حتى الآن حيث قطع عليه كل طرق الخروج بدون اتفاق ويبقى لبوريس إما إتمام اتفاق مستحيل أو التحايل على قرارات البرلمان للخروج بدون اتفاق أو الاعتراف بالفشل ومن ثم الاستقالة والدعوة لانتخابات جديدة.
لا أريد أن أمضى الكثير من الوقت فى تحليل سيناريوهات الخروج فهى تبدو لا نهائية وهدفى هنا أن أنظر لبريطانيا بعد الخروج وليس قبله. ولكن لا يصح الكلام بدون مسح سريع لأهم هذه السيناريوهات وآثارها. السيناريو الأول هو الخروج بدون اتفاق وهو سيناريو كارثى لبريطانيا وسيئ جدا لأوروبا. منذ أسابيع قليلة، أجبر البرلمان الإنجليزى رئيس الوزراء على إعلان تقرير المطرقة الصفراء Yellow Hammer وهى العملية السرية لوزارة الخزينة الإنجليزية فى حالة حدوث خروج من الاتحاد الأوروبى بدون اتفاق وأوضح هذا التقرير الآثار الكارثية ليس فقط على الاقتصاد الانجليزى ولكن أيضا على مناحى الحياة المختلفة. فى نفس الوقت، يقدر المحللون تأثير الخروج بدون اتفاق مثلا على الاقتصاد الألمانى بفقدان نصف فى المائة من حجم الناتج المحلى السنوى. بالنسبة لاقتصاد ألمانيا الذى يعانى من تباطؤ شديد هذا ببساطة يعنى دخوله فى مرحلة ركود. الخروج بدون اتفاق قد يكون له آثار كارثية أخرى فنحن لا نعلم تأثير ذلك على أيرلندا واسكتلندا مثلا الذين يحرصون على علاقتهم مع أوروبا وأهمية الولوج لأسواقها بالنسبة لاقتصاداتهم. وصل بعض المحللين حتى لإمكانية أن تطالب أيرلندا أو اسكتلندا بالانفصال جراء خروج مفاجئ لا يؤمن لهم سبيلا للوصول السهل للسوق الأوروبية الموحدة. السيناريوهات الأخرى هى التوصل لاتفاق للخروج إما مع بوريس أو مع كوربين فى حال فوزه فى الانتخابات أو إجراء استفتاء جديد للخروج وهو يبدو حاليا أمرا مستبعدا لعدة أسباب. أولا يرى الكثير من البريطانيين أن عدم احترام نتيجة الاستفتاء الأصلى فيه تجنى على الديمقراطية مما سيكون له شديد الأثر فى إيمان المواطن بالاجراء الديمقراطى كوسيلة لاتخاذ القرار وقد يكون انتحارا سياسيا لأى شخص يتخذ قرار إعادة الاستفتاء. ثانيا يبدو أن هناك توافقا بين كل الأطراف فى إنجلترا وأن هناك مكتسبات للخروج من الاتحاد الأوروبى وبعد أن دفعت إنجلترا الكثير من ثمن الخروج فى الثلاث سنوات السابقة أصبح طريق الرجوع فى صعوبة طريق الخروج.
مارك كارنى محافظ البنك المركزى الانجليزى فى كثير من الأوقات تكلم عن الآثار السيئة للبريكزيت لدرجة أنه اتهم فى وقت أنه يروج ضد الخروج ويحاول أن يخيف الشعب منه. لكن الحقيقة أن مستر كارنى يتكلم من واقع دراسات قام بها اقتصاديو ومحللو البنك وكل ما قاله منطقى. هو حذر ويحذر من تأثر الاقتصاد الانجليزى جراء البريكزيت. فى تعليق أخير عن العملة الانجليزية قال إنها باتت تتعامل مثل عملات الاقتصادات الناشئة وذلك بسبب تقلب سعرها بعنف مقابل العملات الأخرى ونزول قيمتها بسرعة شديدة. ومستر كارنى ليس وحده فالتأثير واضح لجميع الخبراء العاملين فى مجال الاقتصاد والاستثمار حتى أن أحد محللى سوسيتيه جنرال أخيرا شبه بريكزيت أنه مثل وضع رمل فى موتور. إذن فالتأثير السلبى لبريكزيت؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أمر شبه مفروغ منه وسيستمر ربما لسنوات بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبى. السنوات بل والشهور الأولى للخروج ستكون الأهم، إنجلترا تحتاج للفطام من الاتحاد الأوروبى والبدء فى إعادة رسم القوانين واللوائح المنظمة للاقتصاد والاستثمار والتجارة حيث إنها تعتمد على قواعد الاتحاد الأوروبى حتى اليوم. ستحتاج أيضا لعقد اتفاقيات دولية جديدة مع العديد من الدول لتحل محل اتفاقات الاتحاد الأوروبى مع هذه الدول. لكن قد يكون أهم الخطوات على الاطلاق هو الاتفاقيات المنظمة للعلاقة بين إنجلترا وأوروبا بعد انفصالهما لأن التداخل كما قلنا معقد وعدم وجود اتفاقات منظمة قد تكون آثاره مدمرة لأجزاء كاملة من قطاعات الاقتصاد المختلفة. السنوات الأولى أيضا ستكون فاصلة لعلاقة بريطانيا بأجزاء امبراطوريتها. كما قلنا، يحتاج الاسكتلنديون والايرلنديون بالذات للاطمئنان لمستقبلهم وهم جزء من المملكة المتحدة.
وماذا بعد بريكزيت وآثاره القاسية على الاقتصاد الانجليزى؟ هو اقتصاد بطبيعته جاذب للاستثمار وجاذب للمواهب العالمية. التجارب الإنجليزية فى التخطيط وإدارة استثمارات ومراكز تجارة عالمية مشهود لها عالميا وفى عالمنا العربى. توقعى أنه اذا استطاعت إنجلترا المرور من الشهور والسنوات القليلة الأولى بسلام وأظنها تملك القدرة على ذلك فستأخذ الصدمة وتقف على قدميها سريعا. تخلص انجلترا من بيروقراطية أوروبا المعجزة والبطيئة، تعنى أن البريكزيت سيتمخض عنه عملاق اقتصادى يأخذ أولى خطواته نحو انطلاقة جديدة ستكون الأقوى فى أوروبا لعدة سنوات قادمة. ستمضى بريطانيا سنوات للعودة من صدمة البريكزيت ولكن ما إن تستقر وتنطلق، انطلاقتها ستصبح قوية وعظيمة. حرص مصر على إبرام اتفاقيات اقتصادية جديدة مع بريطانيا فور إتمام خروجها سيضعنا فى مكانة متميزة للاستفادة من قدرات هذا العملاق وبدء علاقة متميزة مع هذه الدولة القوية التى تولد من جديد مما سيكون له عظيم الأثر على اقتصادنا المحلى.