هل على اللاجئ الامتنان والتذلل للبلد الذى استضافه؟
مواقع عالمية
آخر تحديث:
الإثنين 21 سبتمبر 2020 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
نشر موقع قنطرة مقالا للكاتب Gerrit Wustmann، تناول فيه كتاب الكاتبة الإيرانية دينا نايرى «اللاجئ الناكر للجميل» والذى عرضت فيه تجربتها عندما فرت من إيران ولجأت لأوروبا، كما تناولت فيه وضع اللاجئين فى وقتنا الحالى، وأخيرا من ــ من المفترض ــ أن يمتن لمن؟ اللاجئ لمضيفه أم المضيف للاجئ... جاء فيه ما يلى:
تعيش الكاتبة الإيرانية دينا نايرى اليوم فى باريس. أسَست أسرة وكتبت روايتين تعتبران من أكثر الكتب مبيعا وقد تمت ترجمتهما إلى عدة لغات، وهما رواية «الثلاثة قرية واحدة» ورواية «ملعقة صغيرة من البر والبحر». درَست فى جامعتى برنستون وهارفارد، وعاشت فى مدينتى أمستردام ولندن، وهى ضيفة مرغوبة فى البرامج الحوارية بوسائل الإعلام فى جميع أنحاء العالم. تمثِل حياتها واحدة من قصص النجاح المرغوبة فى أوروبا وفى الولايات المتَحدة الأمريكية بشكل خاص.
غير أنَ ما مكَنها من الوصول إلى هذا النجاح لا يرتبط فقط بجهدها الشخصى، بل يتعلق أيضا بقدر كبير من الحظ الذى حالفها ولا يحالف غالبية الناس؛ وذلك لأنَ دينا نايرى لم تواجه على الإطلاق ظروفا جيِدة فى بداية مسيرتها. حيث وُلِدَت فى إيران فى عام 1979، وهو عام الثورة الإسلامية. وتأثَرت طفولتها فى مدينة أصفهان بالحرب العراقية الإيرانية وبصوت صفَارات الإنذار وبالخوف.
لا بديل سوى الهروب
وعلى الرغم من أنَها نشأت فى عائلة أطباء ميسورة، ولكن الوضع أصبح أكثر خطورة مع مرور السنين. حيث اعتنقت أُمُها الديانة المسيحية وكانت تحضر القدَاسات والصلوات فى السر وتقوم بتوزيع منشورات حتى فى داخل عيادتها. أصبح رجال الحرس الثورى يأتون مرارا وتكرارا إلى بابهم، وباتت التهديدات تزداد خطورة. تعرَض معتنقو المسيحية للملاحقة والاضطهاد من قِبَل نظام الخمينى، وساد التعذيب والاستبداد فى السجون الإيرانية. وفى نهاية الثمانينيات لم يعد يوجد أى بديل سوى الهروب.
لا تروى دينا نايرى فى كتابها الموضوعى «اللاجئ الناكر للجميل» فقط قصة هروبها، التى لا تزال تحدِد حياتها على عدة مستويات حتى يومنا هذا، بل تقوم أيضا بزيارات لمخيَمات البؤس فى اليونان، وتتحدَث إلى لاجئين فى بلدان عديدة، وإلى عمَال إغاثة ومحامين وناشطين فى مجال حقوق الإنسان فى كل من هولندا وبريطانيا والولايات المتَحدة الأمريكية.
يعود الفضل فى تمكُن دينا نايرى ووالدتها وشقيقها من مغادرة إيران بشكل سهل غير معقَد نسبيا وحصولهم على حقِ اللجوء بسرعة نسبيا إلى الصدفة قبل كل شىء ــ وكذلك إلى موقف أوروبا من الحقِ الأساسى فى اللجوء، الذى لم يكن قد تعرَض بعد لهجوم بقدر ما باتت عليه الحال اليوم. لم تكن هناك أى شكوك تقريبا فى كون معتنقى المسيحية يتعرَضون للخطر فى إيران. وكان هذا سببا كافيا من أجل الحصول على حقِ اللجوء.
ولكن ذلك قد تغيَر الآن. وفى هذا الصدد كتبت دينا نايرى: «لقد تركنا فى هذه الأثناء البيروقراطيين الأكثر عجزا وسخرية لدينا يبِتُون فى شأن الحقائق المعقَدة؛ لم نُكلِفهم بإنقاذ أرواح أو استقبال المُتعَبين واليائسين، بل بتعقُب الكذَابين». وتضيف أنَهم لم يعودوا معنيين إلَا بـ«حماية مجالنا الحياتى» من «موجة» مجرَدة من الإنسانية مكوَنة من طالبى المساعدة «متجاهلين أثناء ذلك كلَ المعايير الأخلاقية».
مهزلة نظام اللجوء فى الاتِحاد الأوروبى
يعتبر نظام اللجوء ــ الذى يحب الاتِحاد الأوروبى أن يتفاخر به ــ مهزلة بالنسبة للكثير من الأشخاص المعنيين، سواء كان ذلك بالنسبة للأشخاص الذين انتهى بهم المطاف فى جحيم مخيَم موريا فى اليونان، وبالنسبة للذين يجب عليهم تحمُل سنين طويلة من الانتظار ويبقون محكومين بالتعطُل وعدم العمل، وذلك لأنَ أولئك البيروقراطيين الساخرين بالذات يقفون بينهم وبين أية فرصة للحياة.
تقتبس دينا نايرى من الفيلسوف رولاند بارت قوله: «إبقاء شخص ما ينتظر هو امتياز دائم لكل قوة». التقت دينا نايرى بالأشخاص المُنْتَظِرين وتحدَثت إليهم. وتتذكَر انتظارها الشخصى عندما كانت طفلة صغيرة تنتظر فى مكان إيواء اللاجئين فى إيطاليا، والذى يبدو أنَه كان فاخرا جدا بالمقارنة مع مخيَمات استقبال اللاجئين الحالية الموجودة على حدود الاتِحاد الأوروبى الخارجية، ولكن انتظارها لم يكن أقل إرهاقا.
وذلك ــ من ناحية ــ لأنَه لم تكن توجد معايير للمقارنة. ومن ناحية أخرى، لأنَه من النادر وجود رعب لدى الإنسان أكبر من قلقه التام على مستقبله الشخصى.
تطلبُ فى أحد مخيَمات اللاجئين فى اليونان من أحد عمَال الإغاثة المتطوِعين ألَا يقترب كثيرا من الناحية العاطفية من اللاجئين وألَا يعقد معهم صداقات، لأنَ ذلك يمكن أن يمنحهم الأمل. وفى هذه المخيَمات، تتبدَد الآمال أسرع من أى شىء آخر. وتحسب دينا نايرى نسبة اللاجئين فى أوروبا: يصل حاليا إلى الاتِحاد الأوروبى فى كل عام طالبُ لجوء واحد مقابل كل ألفى نسمة من سكَانه.
ولذلك فإنَ حديث اليمينيين عن أنَ العالم برمَته يريد أن يأتى إلى أوروبا ما هو إلَا خرافة دعائية من نسج خيال باغضى البشرية. إذ لن تكون هناك أى مشكلة فى استقبال اللاجئين، ولكن يتم بدلا من ذلك فعل كلِ شىء من أجل إبقائهم بعيدين. أمَا الذين يصلون فيتم إرسالهم إلى صالة الانتظار. وفقط مَنْ يستطيع سرد قصة مؤثِرة قد يحظى بفرصة الحصول على اللجوء الدائم ــ أى المستقبل.
أمَا نوع القصص التى يتم قبولها للتو فيتغيَر باستمرار ولا علاقة له كثيرا بالواقع فى بلدان اللاجئين الأصلية. ولهذا السبب يخترع الكثيرون قصص هروب، وذلك ليس لأنَهم يريدون الكذب، بل لأنَهم مجبرون على ذلك. إذ إنَ هذا خيارهم الوحيد، ولأنَ الموظفين البيروقراطيين يُقرِرون مصيرهم ولا يهتمُون بتاتا بالحقيقة ويتنافسون على تحقيق أعلى نسبة رفض لطلبات اللجوء.
وثم ينتظر هؤلاء البيروقراطيون والكثير من مواطنى الاتِحاد الأوروبى الشكر والامتنان من الأشخاص الذين سيقبلونهم فعلا فى النهاية. توضح دينا نايرى: «لا يجب علينا أن نكون مُمتنِين للبلد الذى يستضيفنا. ليس لدينا ديون لنردها».
معايير الغرب المزدوجة
وتفضح الوضع الراهن المتمثِل فى اختيار اللاجئين بحسب منفعتهم الاقتصادية للبلد المضيف باعتباره السخرية الأكثر قتامة وغير إنسانية. يتم تصنيف ممارسة القوة التى لا ترحم على أنَها «مساعدة».
و: «الأكثر إثارة للغضب هو مصطلح «لاجئ اقتصادى»، وهذه كذبة تم اختلاقها من قِبَل أصحاب الامتيازات لإحراج الغرباء، الذين يعانون أشدَ معاناة ويتوقون إلى حياة تليق بكرامة الإنسان. لو كان لدى أطفال أصحاب الامتيازات مثل هذه الرغبات، فسيصفونها بأنَها «حافز» وَ «روح مبادرة‘». تنتقد دينا نايرى معايير الغرب المزدوجة انتقادا لا يرحم، وهذا أمر جيِد.
إذ إنَ طريقة التعامل مع طالبى الحماية تكشف القيمة الحقيقية لجميع التأكيدات الأخلاقية والثرثرة حول حقوق الإنسان. تدرك دينا نايرى ذلك كلَ يوم من أيَام حياتها، ويتَضح هذا أيضا من الفقرات الطويلة، التى تصف فيها كيف تتمزَق مرارا وتكرارا بسبب شكوكها الذاتية، وكيف تبحث باستمرار ومن دون انقطاع عن بدايات جديدة، لأنَها لم تعرف بتاتا عندما كانت طفلة الشعور بالترحيب والثقة بها.
وهى تعرف أنَها يمكن أن تكون تلك المرأة التى هربت من الحرب وتعرَضت للاغتصاب عدة مرَات وهى فى الطريق، فقط ليتم اتِهامها من قِبَل موظف يرتدى ربطة عنق ويجلس فى دائرة اللجوء بأنَها كاذبة، لأنَها لم تنجح فى وصف تجربتها المؤلمة بجميع تفاصيلها. وتعرف أنَها يمكن أن تكون ذلك اللاجئ الإيرانى الذى انتحر حرقا أمام الناس بعد عشر سنوات فى منطقة محايدة بسبب عدم الاعتراف به. وتفهم اليأس الذى يحتاجه الإقدام على مثل هذه الخطوة: إنَه الانعدام التام للأمل.
وهى تعلم أنَها كانت محظوظة جدا. وتعلم أنَه عادة ما يكون من غير الواضح على الإطلاق بالنسبة لقرَائها فى الغرب ماذا يعنى الهروب فى الواقع. ماذا يفعل بالإنسان تخليه عن كلِ شىء والبدء من جديد ــ حينما يسمح له بفعل ذلك.
لا، لا يوجد أى سبب فى الحقيقة لإبداء اللاجئين شكرهم وامتنانهم للبلد الذى يستضيفهم، بل يجب عوضا عن ذلك أن يكون البلد المضيف ممتنا للأشخاص، الذين ينجحون فى الخروج من جنون التعسف، ثم يصبحون مستعدِين فى الواقع للبقاء والعطاء.