فى حضرة «التوحيدى» المغترب!

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 21 سبتمبر 2024 - 5:55 م بتوقيت القاهرة

(1)
لا أذكر على وجه التحديد متى وكيف انتبهت إلى الصلة الصوتية والدلالية بين كلمتى «غربة» و«اغتراب»!
صكت أذنى فى أواسط تسعينيات القرن الماضى كلمة «المثقف المغترب»، وكان المجلس الأعلى للثقافة آنذاك يحتفل بألفية أبى حيان التوحيدى صاحب الإمتاع والمؤانسة والمقابسات والإشارات الإلهية؛ إنه ذلك المثقف المغترب بحاله وشعوره عن أهله وناسه وذويه!
إنه ذلك الشاكى الباكى صراخه يصم الآذان؛ لكنه يصدقنا القول بواحد من أصدق وأنصع نصوص البحث عن الغريب ومن يكون؟ كلنا مضطر للسعى والاستمرار فى الحياة.. لكن بيننا غرباء كثيرين!
فأى غربة تعنى يا توحيدى العصر؟ وعن أى غريب تتحدث؟
اسمع معى - يا صديقى - أبا حيان التوحيدى يجيبنا من غربته (أم اغترابه) فى القرن الرابع الهجرى:
«يا هذا! الغريب من فى غربته غريب!
يا هذا! الغريب من غربت شمس جماله، واغترب عن حبيبه وعذاله، وأغرب فى أقواله وأفعاله، وغرب فى إدباره وإقباله!
يا هذا! الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد بالمحنة.. الغريب من إن حضر كان غائبًا، وإن غاب كان حاضرًا. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه».

(2)
منذ عرفته وتعرفت به وأدمنت قراءته، وهو حاضر معى لا يغيب، أستأنس به وإن عاش حياته وحيدًا مكروبًا غريبًا مغتربًا!
أتحدث عن أكبر كتّاب النثر العربى على الإطلاق (بعد الجاحظ) وأكثرهم عمقا وفلسفة وتأملًا ومناجاة وشكوى!! عن أبى حيان التوحيدى، مثقف القرن الرابع الهجرى، الذى أمتعنا وآنسنا فى «الإمتاع والمؤانسة»، وقبَس من معارف عصره وعلوم زمنه فى «المقابسات»، وكتب عن «مثالب الوزيرين»، وأهدانا تحفته عن «الصداقة والصديق»، وناجى ربه ونفسه بصدق تعبيرى وحرارة نفس وجودى فى «الإشارات الإلهية» التى لم نرَ لها مثيلًا فى الأدب العربى كله عبر عصوره!
أعترف بأننى منذ تعرفت على «التوحيدى»، وأنا فى السابعة عشرة من عمرى، وأنا ملازم له مرافق لنصوصه، منصت لإشاراته، متأمل لأنينه وعباراته.
قد أكون ورثت محبته من الراحل جمال الغيطانى الذى خصه باهتمامه وافتتن بالحديث عنه وعن كلامه حتى أنه أخرج واحدًا من أجمل كتب الاختيارات والمختارات بعنوان «خلاصة التوحيدى»! وقد كدت أحفظ نصوص هذه الخلاصة من جمالها الفائق وشعريتها الفاتنة، واختصاصها بقطعة حية فريدة من تاريخ الثقافة العربية والإسلامية، وصلت فيها لذروة الذروة واتصلت فيها بغيرها من الثقافات، فأخذت وأعطت، وأثّرت وتأثرت، فكان من ثمرات هذا التلاقح نموذج التوحيدى الفذ الغريب، ما جعل البعض يطلق عليه «أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء».
ثم ازددت قربًا من التوحيدى وعصره، وحضوره وغربته، وأزمته النفسية والوجودية، مع كتابات أستاذى الراحل الدكتور جابر عصفور الذى اعتنى بالتوحيدى اعتناء فائقًا ونظم احتفالًا بألفيته يكاد يكون احتفالًا عالميًا بكل ما تعنيه الكلمة فحشد له كبار مثقفى المصر والعصر من جميع أرجاء العالم العربى، وقدموا خلاصة قراءاتهم وبحوثهم عن صاحب «البصائر والذخائر» (وهو أكبر كتبه تقريبًا) ونشرها جابر عصفور فى ثلاثة أعداد ممتازة من مجلة فصول.

(3)
أعطانى جابر عصفور فى كتابته الممتازة عن «التوحيدى» أحد المفاتيح المهمة لقراءة الرجل وعصره وثقافته، فلم يقتصر على الجانب الجمالى وحده، ولا على الجانب اللغوى ولا الأسلوبى، وإنما النظر إلى نصوص التوحيدى باعتبارها تمثيلًا حيًا لإشكالات عصره، ومدى ما وصلت إليه الثقافة العربية والإسلامية من اتساع وانفتاح أفق لكنه اصطدم فى النهاية بطغيان التيارات التى كُتبت لها السيادة فى القرون التالية، فأوصلتنا إلى ما أوصلتنا إليه الآن!
كان جابر عصفور فى حديثه عن أبى حيان، أكثر تمثلًا لطبيعة هذا المفكر ووعيه المركب، والتباساته الإشكالية؛ إذ يؤكد أن أبا حيان كان نمطًا فريدًا من المبدعين لا يخضع للتصنيف الجامد الذى يختزل الثراء فى صفة واحدة البعد كالموسوعية، وغيرها.
قرأ عصفور نموذج التوحيدى باعتباره تجسيدًا لافتًا للوعى «المدينى» الذى من لوازمه الشك فى التقاليد الجامدة، والأوضاع الثابتة، والقوالب المتحجرة، وإثارة السؤال الدائم والبحث عن الأفق المعرفى «النسبى» المفتوح دومًا للتعددية والاختلاف الثريين، والتسامح، كفضاء المدينة متعددة الأعراق والأجناس، واللغات والديانات والمذاهب والعلاقات.. إلخ.
فضاء الوعى المدينى هذا هو فضاء التمرد والعقل الحر الذى لا يكف عن مساءلة ذاته، وكل ما حوله سعيًا لتأسيس إمكانات الحوار الخلاق، لا التنافر والصراع المدمر.. أوليس التوحيدى هو الذى يقول فى مقابساته «فإنى أجد الإنسانَ ونفسَه كجارين متلاصقين، يتلاقيان فيتحدثان، ويجتمعان فيتحاضران».. كأنه ينقسم على ذاته، ويخلق منها محاورًا وآخرًا لا معاديًا ولا مخاصمًا!
كان التوحيدى تجسيدًا لهذا المفكر والمثقف الذى لا يكف عن طرح قلقه ولا يقينه وأسئلته على قارئه سواء وعى بان ذلك القارئ قد يكون فى زمنه هو أم فى زمننا نحن الآن!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved