بيت تغنى فيه الخفافيش
داليا شمس
آخر تحديث:
السبت 21 سبتمبر 2024 - 5:55 م
بتوقيت القاهرة
لا يزعجهما صرير الحنفيات الصدأة فى الحمام. تعودا عليه. كما أصبحت قطرات المياه التى تتساقط ببطء من حين إلى حين جزءًا من الإيقاع الصوتى للبيت. هذا البيت الذى شاخ معهما. استسلم هو الآخر للزمن. النمل يملأ فراغات البلاط، أنشأ ممرات ومستعمرات سفلية ليعيش فى عالم موازٍ. كل شىء هنا على وشك أن يتهاوى، لكنه يناضل ليبقى.
قطع الصابون وضعت بعناية على الأرفف، فمن فى مثل سنهما لا يعترف غالبًا بنظافة المساحيق السائلة. ألوانها المختلفة تضفى قليلًا من البهجة على مكان تحول تدريجيًا إلى الرماديات الهادئة والمحايدة. الشمس ألقت بظلالها على الأثاث الخشبى فأطفأت لمعانه، والرياح والأمطار سوت ما سوت بجسم البيت من الخارج حتى صارت أحجاره كالحة.
أم خليل تقضى وقتًا طويلًا فى الشرفة. فى النهار، تتابع مجريات الأمور بنفسها وتنسج علاقات ودية بالمارة من أهالى الحى. تمطرهم بالتحيات الحارة والدعوات. وفى المساء، تجلس لتحل الألغاز والكلمات المتقاطعة كى تحارب تشوش الذهن والذاكرة. كانت دومًا لديها شكوك أن الحضارات القديمة تخبىء العديد من الجرائم والسرقات، وهى تحب أن تنبش فى الماضى، كما تهوى التنقيب فى ممتلكاتها القديمة التى تحمل آثار أيام ولت، وأحباب لم يعودوا بيننا. دبت الحياة فى شجرة التين المزروعة فى نهاية البيت، وثقلت أغصان دالية العنب المحملة بالثمار. ومع هبات النسيم، يصلها خليط من روائح النعنع البلدى والريحان التى زرعتهما بنفسها قبل سنوات لكى تضيفهما إلى السلطات التى اشتهرت بها.
• • •
زوجها يرفض أن يتابع معها المسلسلات التليفزيونية. يقود سيارته المتهالكة أحيانًا ليشترى حاجياتهما من السوق، لكن على الأغلب يمسك بتليفونه المحمول الذى تهشمت شاشته من فرط ما سقط منه على الأرض ويفتش عن الأخبار التى عادةً لا تسر عدوًا ولا حبيبًا. يفضل أن يستمع لما يختاره من على يوتيوب بعد أن صار خبيرًا فيه، بالنسبة إليه صار الهاتف بديلًا عن الراديو الترانزستور الذى كان يُقرِّبه إلى أذنه، وينام وهو ملاصق له. يرتفع صوت مقدمى الفيديوهات المجهولين الذين يعلقون على أهم الأنباء ويتناولونها بالتحليل. غريب أمر هذا العالم، القتل فيه متعة. وهو ما زال غير مقتنع أن يموت الناس من حوله دون أن يحرك أحد ساكنًا. يراقب جلسات مجلس الأمن، وكله أمل أن قرارًا ما سيتم اتخاذه بشأن المجازر، وحين لا يأتى القرار يمصمص بشفتيه ويشيح بيديه بكثير من الغضب والتعجب.
ما زال قادرًا على قراءة إشارات المطر والنجوم ورهافة الهواء، لكنه يعجز عن التكهن بمسارات الأحداث فى هذه المنطقة المنكوبة. رفض أن يتركها ويرحل مع أولاده رغم إصرارهم. قال لهم إنه لن يغادر بيته إلا وهو ذاهب إلى القبر، فالبيوت المهجورة تفتقد ساكنيها، تدخل فى حالة حداد وتتدهور حالتها حزنًا على أصحابها، مثلما الأوطان التى قد تنهار بفعل الهجرة، وهو لا يريد أن ينهار شىء أحبه بهذه القوة. حتى لو غنت الخفافيش حاليًا فى بعض مواضعه أو تسللت إليه بعض الحشرات، إلا أن وجوده وأم خليل يعتبر عنصر ردع لا يستهان به. تكون هناك مطاردات ومناوشات من وقت إلى الآخر، هزائم وانتصارات صغيرة تجعل الحياة أقل رتابة، لكن بالطبع صحته لا تسمح له أن يقوم بأعمال الصيانة التى يحتاجها البيت كاملةً مثلما كان يفعل فى السابق.
• • •
يستند إلى الوسادات القطنية المنتشرة فى كل الغرف كى تريح ظهره، ويلجأ أحيانًا لأخرى هوائية كى يجلس عليها فتحميه من القُرح. تشغل باله أسئلة مفاجئة، فيسلى نفسه باللجوء فورا إلى «جوجل» الذى أصبح صديقه الصدوق. يستفهم منه مثلًا: متى ظهر زجاج الشبابيك بهذا الشكل الذى نعرفه؟ فيجيبه محرك البحث أن النوافذ الحالية يرجع تاريخها للقرون الوسطى، مع دمقرطة استخدام الزجاج فى بداية القرن الرابع عشر، وينشغل بالحكايات حول ظهور الشيش والمقبض والمزلاج... ثم ينسحب إلى استفسار آخر حول تطور خزانة الملابس التى بدأت بكونها خزينة حديدية لحفظ الأموال وكل ما غلا ثمنه، وتغيرت وتنوعت تصميماتها مع الوقت. يمشى قليلًا فى ردهة البيت فيخطر على باله أن يعرف أصل كلمة «كوريدور» أو الممر الذى يربط بين الحجرات المختلفة، فيكتشف أنها بالأساس كلمة إيطالية وتعنى المكان الذى نعبر منه أو نجرى فيه، وهكذا انشغل أبوخليل بأمور بيته وتفاصيله التى ملأت حياته... حضوره يؤنس وحدتهما هو وزوجته، وقد اعتادا حتى أصوات الخفافيش التى اعتبراها مجازًا صنفًا من أصناف الغناء. زيادة سنة أو نقصان سنة لم يعد يفرق.
فجأة حدث انفجار ضخم فى نظام الطاقة الشمسية أعلى السطح، كما حدث فى عدد من البيوت جنوب لبنان. لا مجال لأن يفهم أحد إذا ما كان الحريق امتد من المنازل المجاورة أم أن الانفجار بدأ بالفعل لديهما. البيت احترق، لم تبقَ سوى ذاكرة النار.