الطلقات الأولى فى حرب التجارة العالمية
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 21 أكتوبر 2010 - 10:18 ص
بتوقيت القاهرة
نسمع بين الحين والآخر طلقات تحذيرية يطلقها الطرفان الكبيران فى النظام الاقتصادى العالمى توحى بأن حربا تجارية بين الغرب والصين على وشك أن تنشب، وتؤكد فى الوقت نفسه أن جميع الأطراف تتمنى تفادى نشوبها، أو تأجيله.
سمعنا عن مشروع قانون وافق عليه النواب الأمريكيين منذ أيام يقضى بفرض ضرائب جمركية على السلع المنتجة فى بلاد «تتلاعب» بقيمة عملاتها، والمقصود بطبيعة الحال الصين المتهمة بأنها تتعمد تقويم عملتها بسعر أقل من قيمتها الفعلية. ويتوقع خبراء أمريكيون أن تتثاقل خطى مجلس الشيوخ قبل مناقشة مشروع القانون لإعطاء الفرصة لحلول أخرى. سمعنا أيضا طلقات دبلوماسية عديدة، أكثرها لم يصب هدفه، أو لعله لم يقصد تماما إصابة الهدف.
من هذه الطلقات الموقف المتشدد الذى اتخذته واشنطن فى مساندة اليابان ضد الصين حول الجزيرة الجرداء المتنازع عليها فى البحر الأصفر. أما أخطر الطلقات أو أعلاها صوتا فكانت منح جائزة نوبل للسلام لأحد المنشقين الصينيين والمعتقل بسبب مواقفه المؤيدة للديمقراطية، كانت الجائزة رسالة واضحة من دول الغرب إلى بكين بأن الغرب يستطيع إزعاج الصين كما سبق وأزعج الاتحاد السوفيتى حين منح الجائزة للكاتب سولزينيتشين أيام الحرب الباردة.
هذه الطلقات، حسب تعبير تردد الأسبوع الماضى فى أروقة صندوق النقد الدولى ونقله مراسل صحيفة فاينانشيال تايمز، تظل أقرب ما تكون إلى حرب خنادق تجارية أو حرب عملات منها إلى حرب تجارية.
ويدلل المراسل على ذلك بأن الصندوق من ناحية ودولا أعضاء من ناحية أخرى يحاولون فى جو من التوتر والقلق وقف التصعيد خوفا من أن انتصار الصين بحرب، أو بدون حرب، سوف يعنى نهاية النظام الاقتصادى العالمى الذى دشنته اتفاقيات بريتون وودز بقيادة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ويعنى أيضا بداية نظام اقتصادى عالمى جديد يد شنه واقع جديد بقيادة الصين.
توقع عديد الاقتصاديين الأمريكيين فى عام 2008 نشوب حرب تجارية عالمية، حين كان الغرب خارجا لتوه من الأزمة الاقتصادية العالمية منكسرا. ولم تقع الحرب. يبدو أنهم عادوا من جديد إلى الحديث عن قرب نشوبها. واضح لنا ولهم، وللصينيين أيضا، أن الأمل فى انتعاش الاقتصاد الأمريكى فى تراجع مستمر.
كتب كلايف كروك فى مقال نشرته له فاينانشيال تايمز تحت عنوان «حان وقت الصرامة مع الصين»، يقول إن الولايات المتحدة» دخلت مرحلة نمو متباطئ وبطالة عالية متواصلة وعجز تجارى يتوسع عاما بعد عام ومزاج شعبى سيئ وانتخابات على الأبواب».
أزعجنى العنوان بقدر ما أزعجنى توصيف حال أمريكا. فالتجارب تقول لنا أن الدول التى تصاب بمثل هذه الحال يلجأ حكامها أول ما يلجأون إلى إشعال جذوة الشعور القومى ضد «الآخر» كما حدث ويحدث مع الإسلام والمسلمين. وفى هذه الظروف لن يجدوا أفضل من الصين «آخرا» ينصب عليه الغضب وتشحن من أجل مواجهته الأقلام وتشرع أسلحة التجارة.
كان اثنان من كبار الاقتصاديين الأمريكيين قد اتخذا موقفا مماثلا، وإن اختلفت المداخل والأساليب. يذكرنا روبرت صامويلسون الكاتب الشهير فى واشنطن بوست بالكساد العظيم الذى ضرب النظام الرأسمالى فى الثلاثينيات من القرن العشرين، ويذكرنا تحديدا بقانون سموت هاولى Smoot- Howley الصادر عام 1930 الذى رفع التعريفة الجمركية على عديد السلع المستوردة بهدف تشجيع الصناعة المحلية، وكيف أن القانون وإن لم يكن سببا مباشرا فى نشوب الكساد العظيم كان بالتأكيد وراء اندفاع معظم الدول للانتقام من الولايات المتحدة.
ويحمل صامويلسون على الصين بشدة، فينقل عن روبرت سكوت الباحث فى معهد السياسات الاقتصادية الليبرالية فى واشنطن قوله إن التجارة مع الصين كلفت أمريكا أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون وظيفة عمل.
ويعلق بأن الصين إذا رفعت قيمة عملتها بنسبة 20% سيزداد عدد الوظائف فى أمريكا بما لا يقل عن 300.000 إلى 700.000 وظيفة على امتداد ثلاث سنوات.
يلفت النظر أن الكاتب الشهير لم يشر إلى الوظائف التى خسرتها أمريكا ولم تكن من مسئولية الصين، فالمعروف أن الولايات المتحدة فقدت أكثر من 8.4 مليون وظيفة بسبب انهيار المؤسسات المالية الذى أشعل الأزمة الاقتصادية فى أواخر عام 2007، وهى الوظائف التى لم تفلح حكومة باراك فى استعادتها حتى الآن.
ولا يخفى، على كل حال، أن دولا عديدة استخدمت بالفعل أسلحة الحرب التجارية، ولكن ليس ضد الصين، وإنما استخدمتها فى محاولة لتخفيف وقع الأزمة الاقتصادية العالمية على شعوبها وصناعاتها ومزارعها.
حول هذا الموضوع يقول جوزيف ستيجليتز، الاقتصادى الشهير الحائز جائزة نوبل إن سبع عشرة دولة أدخلت تشريعات حماية فى عام 2008، بل إن أمريكا نفسها، وهى المبشرة بمبادئ حريه التجارة، أصدرت قانونا يحث المستهلكين الأمريكيين على شراء المنتجات الأمريكية وتفضيلها على منتجات الدول الأجنبية.
ويتنبأ ستيجليتز بأن ضعف مسيرة الانتعاش فى الاقتصاد الأمريكى كفيلة وحدها بأن تدفع المشرع الأمريكى إلى إصدار قوانين جديدة. على الناحية الأخرى، يقول الصينيون ضمن القليل الذى يصرحون به، ويردده المدافعون عنهم، إن الصين إذا استجابت ورفعت قيمة اليوان (الرينمينبي) سيكون الفلاحون الصينيون الخاسر الأكبر، وعددهم كما نعرف هائل.
ويتساءلون لماذا يخسر الفلاحون الصينيون من أجل أن يكسب المزارعون الأمريكيون المدعومون دعما كبيرا من الحكومة الفيدرالية. وتعتقد الصين ومعها كثير من الاقتصاديين الغربيين ومنهم ستيجليتز، أن المشكلة تعود فى أساسها إلى ضعف معدل النمو فى الولايات المتحدة ودول الغرب وليس قوة النمو فى الصين، وتحذر دول العالم من إغراق الأسواق المالية الخارجية بتدفقات رأسمالية أمريكية غير منضبطة وغير محسوبة.
ويعتقد الصينيون أنه ليس من حق الغرب التهديد باتخاذ إجراءات عقابية ضد تجارة الصين واستثماراتها فى الخارج وحرمان الداخل من الاستثمار الغربى فى الصين، وهى بالتأكيد لا تريد حربا تجارية لأن العالم أجمع سيخرج منها خاسرا.
لقد اختارت الصين طريق النمو والتوسع الاقتصادى وهى تعلم حجم المشكلات التى تنتظرها فى الخارج كما فى الداخل. كثيرون بين مفكرى العالم النامى يناقشون الآن جوهر التوسع الاقتصادى الصينى فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية وبعض دول آسيا، وما إذا كانت تنطبق عليه مفاهيم تقليدية ويبرزون الجوانب غير الطيبة. بعض آخر يناقش الجوانب الطيبة، وربما غير المقصودة، المترتبة عن إغراق الأسواق بسلع رخيصة الثمن.
نعرف من تجربتنا المصرية مع المنتجات الصينية الرخيصة أن بلايين الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى يستمتعون الآن باستهلاك سلع لم يدر بخلد أكثرهم أنها كانت ستصل ذات يوم إلى أيديهم فى ظل هيمنة الرأسمالية الغربية التى تجاهلت حاجة الفقراء. نعرف أن عشرات بل مئات السلع ما كانت لتدخل بيوت الفقراء المصريين وذوى الدخل المحدود لو لم تهتم الصين بإنتاجها وتصديرها وتوفيرها رخيصة.
الخيارات فى المرحلة القادمة محدودة. أمام أمريكا مثلا خياران، إما مقاومة طموحات الصين والمخاطرة بحرب تجارية الكل سيخسر فيها، أو الامتناع عن اتخاذ أى إجراء فتواصل الصين نموها وتوسعها وينتهى الأمر بأن تضع الصين للعالم نظاما تجاريا جديدا على قياسها وحاجاتها، تماما كما فعلت أمريكا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية.
فى هذا السياق تستعد دول لحماية اقتصادها، كل منها حسب ظروفه وعلاقاته الدولية، يقول جيدو مانتيجا وزير مالية البرازيل إن العالم مشتبك الآن فى حرب تجارية ولذلك قررت بلاده فرض ضريبة على جميع التدفقات المالية الواردة من الخارج، باعتبار أنها الخطر الأساسى الذى يهدد الاقتصاد العالمى فى الوقت الراهن. ويقول برافين جاردهان وزير مالية جنوب إفريقيا إن العلاج لا يكون بترقيع الحائط أو إعادة دهانه قبل تغيير مواسير المياه المثقوبة والمنتهية صلاحيتها ويقصد إصلاح النظام المالى العالمى.
حتى الآن لا يوجد ما يشير إلى أن الدول الغربية المشاركة فى قمة العشرين القادمة ستفلح فى كبح جماح الصين ودول ناهضة أخرى، ففى ظل استمرار تباطؤ الانتعاش الاقتصادى فى الولايات المتحدة تصبح كافة الخيارات محفوفة بأخطار شديدة.