جوليان بيندا.. وخيانة المثقفين
صبرى حافظ
آخر تحديث:
الجمعة 21 أكتوبر 2011 - 9:25 ص
بتوقيت القاهرة
أعود هذا الأسبوع كما وعدت إلى كتاب جوليان بيندا (خيانة المثقفين) الذى أشرت إليه فى الأسبوع الماضى، والذى نبهنا إلى أهميته إدوار سعيد فى كتابه (تمثيلات المثقف). أعود إليه بالرغم من أنه نشر فى طبعته الأولى عام 1927، ثم فى طبعة ثانية مزيدة عام 1946 عقب خروج فرنسا من محنة الاحتلال النازى لها، وخيانة المزيد من مثقفيها لها خلال تلك المحنة. أعود إلى هذا الكتاب لأن دور المثقف فى مصر شديد الأهمية لسببين: أولهما أن مصر ظلت لعقود طويلة، ولا تزال تعانى من ارتفاع نسبة الأمية بين مواطنيها، بصورة لم تقل عن نصف سكانها حتى الآن، وأن النصف الآخر الذى أتيحت له فرص التعليم يعانى أغلبه من الأمية الثقافية والسياسية. وهذا يجعل من يتمتعون بالتعليم والوعى الثقافى والسياسى معا أقلية فى المجتمع المصرى، ومن بين هذه الأقلية يشكل المثقفون القادرون على التعبير عن مطامح الشعب وآماله أقلية أصغر استثمرت فيها مصر الكثير، ويتطلع كل بنيها إلى عائدات هذا الاستثمار. وهذا الواقع يضع على كاهل المثقف فى مجتمع من هذا النوع عبئا مضاعفا، ويجعل خيانته لدوره ذات أثر مضاعف أيضا.
أما ثانيهما فإنه يعود إلى حالة مصر، وقدرها التاريخى، ووضعها فى العالم المحيط بها، فظروف مصر التاريخية وموقعها الجغرافى معا يؤهلانها للقيام بدور لا يمكن أن يتحقق دون وعى مثقفيها به وعملهم الدءوب لإزالة كل العقبات التى تحول دون تحقيقه. لكن السببين معا ينطويان على عدد من الأبعاد الفكرية التى برهنت عليها معظم النظريات الحديثة والتى تنطلق من أهمية اللغة، أداة المثقف الأساسية، ودورها لا فى صياغة الوعى فحسب، وإنما فى بلورة تصورنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، وفى تخليق فهمنا لهويتنا سواء الفردية منها أو الوطنية. لأن الوعى بالوطنية نفسه لا يصاغ فى اللغة فحسب، وإنما يلعب جنس أدبى مثل الرواية دور مهم فى تخليقه كمتخيل وطنى جمعى كما برهنت دراسات بينديكت أندرسون المهمة فى هذا المجال، كما تلعب الصحافة هى الأخرى دورا مهما فى هذا المجال. بصورة لا يمكن معها الفصل بين ممارسات المثقف فى المجتمع وبين وعى أبناء هذا المجتمع بهويتهم وأولوياتهم وتصورهم لأنفسهم ولدورهم ودور وطنهم فى العالم المحيط بهم.
وهذا هو ما يدعونا للتوقف عند استقصاءات جوليان بيندا فى هذا المجال؛ لأن إضاءاته تلقى الضوء على ما تعانى منه مصر الآن، وهو ما عانت منه فرنسا بين الحربين وأثناء الاحتلال النازى لها. فالمثقف عند بيندا هو حامل مشعل الحقيقة الخالصة والمجسد لأفضل القيم الأخلاقية والضميرية، والمستعد للتضحية من أجلها، وهو الذى جعل الإنسانية جديرة بإنسانيتها عبر التاريخ من سقراط والمسيح حتى فولتير وسبينوزا وأرنست رينان، وصولا بعد زمن بيندا إلى سارتر وبرتراند راسل وبيير بورديو وإدوار سعيد وتشوميسكى وغيرهم. هم عنده حفدة الأنبياء، وأصحاب الرسالات الفكرية والأخلاقية. ولذلك فإنه لا يستخدم المصطلح المألوف Intellectuals للحديث عنهم، وإنما يستعمل مصطلحا له أصداؤه الدينية والروحية Clercs لأنهم رعاة الحق والخير والحقيقة. وتعارض أصداؤه كل ما هو مادى ودنيوى، لترتفع بالمثقفين فوق العادى والمألوف.
فالمثقف الحقيقى عنده له سلطة أخلاقية تفوق كل سلطة دنيوية أو مادية. فلابد للمثقف الذى يستحق هذا الاسم عنده إذن أن يترفع عن الدنايا، وأن يعرض عن المزايا المادية أو الشخصية، وأن يتجنب كل سلطان زائل. فالمثقف الحقيقى عنده هو «ذلك الذى لا يسعى بثقافته وراء أى غرض مادى، وإنما يجد تحققه وسعادته فى ممارسة الفن أو العلم أو الاستقصاءات الفلسفية»، وباختصار فى اختيار مزايا غير مادية، أو ما سيدعوه عالم الاجتماع الفرنسى الكبير بيير بورديو فيما بعد برأس المال الرمزى. ولذلك فإنه يقول بطريقة ما «إن مملكتى ليست فى هذا العالم». ولا يعنى هذا بأى حال من الأحوال أن المثقف عنده هو شخص معزول فى برج عاجى يواصل اهتماماته المغرقة فى الخصوصية، وإنما هو الشخص الذى تحركه كمثقف قناعاته بمبادئ الحقيقة والعدالة، ورغبته فى إدانة الفساد والدفاع عن الضعفاء والمظلومين، وتحدى سلطات القهر والتخلف والفساد. فكل النماذج التى استشهد بها هى من هذا النوع السجالى المعارض الذى يسعى بتعبير إدوار سعيد إلى طرح الحقيقة فى مواجهة القوة. حيث يستشهد بمعارضة فينلون لحروب لويس الرابع عشر، وبإدانة فولتير للاستبداد ومصادرة الحريات، ووقوف زولا ضد التعصب والظلم وتخلف الرأى العام، وتصدى رينان لعنف نابليون وحروبه، وإدانة نيتشه لبربرية ابناء وطنه الألمان تجاه الفرنسيين، وغيرها من الأمثلة حتى عصره، ويمكننا أن نضيف إليها الكثير على مد التسعين عاما التى انصرمت منذ كتابته لكتابه ذاك. هذا المثقف الحقيقى قد يتعرض للتهميش، والعزل والسجن، والتشويه وكل أشكال الصلب المادية والمعنوية، ولكنه لا يساوم على ما يعتقد أنه الحق. لأنه يعى مسئوليته إزاء ضميره، وإزاء أمته، وإزاء التاريخ الإنسانى الذى يرى بيندا أن المثقف الجدير بهذا الاسم، هو الذى يجعل هذا التاريخ إنسانيا ومضيئا، ويجعل الحياة نفسها جديرة بأن تعاش بالنسبة للجميع.
فما هى الظروف والأسباب التى تدفع المثقف للتخلى عن هذا الدور وخيانة نفسه وأمته معا؟ هذا ما سنحاول اكتشافه مع كل من بيندا وإدوار سعيد الذى قدم استقصاءاته لنا، ووقع إلى حد ما فى غوايتها، فى الأسبوع القادم.