الدولار يدخل معركة الرئاسة الأمريكية

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الإثنين 21 أكتوبر 2024 - 6:40 م بتوقيت القاهرة

أثبتت الوقائع التاريخية وتطوراتها أن النفوذ السياسى ينعكس على النقد الذى تُبرِز قوته ارتفاعًا فى مستوى المعيشة. وإذا كان المال يشترى السلطة والنفوذ، بخاصة بالنسبة إلى الدولة التى تصدر العملة الأكثر انتشارًا فى العالم، فإن أهم النتائج المترتبة عن ذلك قدرتها على تحمّل المصاريف العسكرية.

 

ينتظر العالم باهتمام كبير تاريخ الخامس من نوفمبر المقبل، موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التى ستعكس مسارًا حاسِمًا للمستقبل السياسى والاقتصادى للولايات المتحدة، وتأثيره على مسيرة الاقتصاد العالمى. ولذلك يأتى تأثير الملفات الاقتصادية فى صدارة الاهتمام، فى ضوء مؤشرات التضخم وأسعار الفائدة والبطالة والنمو وتفاقم الدّين العام. وهى من أهم العوامل التى ينظر اليها الناخبون والناخبات، الذين يربطون أداء الاقتصاد بسياسات الحكومة، وقدرتها على توفير الرخاء والاستقرار الاقتصادى.
أشاد صندوق النقد الدولى بنمو أكبر اقتصاد فى العالم، وتقدمه المُحرز نحو السيطرة على "التضخم". لكن الصندوق حذر من العجز المالى المتزايد، والديون المرتفعة، والمقدرة بنحو 35 تريليون دولار، لأنهمايخلقان مخاطر متزايدة على الاقتصاديْن الأمريكى والعالمى، ما يؤدى إلى ارتفاع تكاليف التمويل المالى. ولذلك أوصى برفع الضرائب للحد من ارتفاع الدين العام إلى مستوى مقلق يبلغ 140 فى المئة من الناتج المحلى الإجمالى فى نهاية العقد الحالى.
وجاءت نصيحة صندوق النقد، مع استمرار العجز المالى الذى بلغ 1.268 تريليون دولار خلال تسعة أشهر من السنة المالية أكتوبر 2023 - يونيو 2024، والتى انتهت فى سبتمبر الماضى، إذ بلغت الإيرادات 3.754 تريليون دولار، مقابل 5.022 تريليون دولار للنفقات. وأسهمت ضخامة تكلفة خدمة الديون نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة إلى 5.5 فى المئة، بهدف خفض التضخم، بنسبة كبيرة من النفقات المتزايدة. وتوقع الصندوق أن يرتفع صافى مدفوعات الفائدة الأمريكيّة على الدّين الفيديرالى من 2.4 فى المئة فى العام 2023 إلى 3.2 فى المئة من الناتج المحلى الإجمالى فى السنة المالية 2024، ومؤكدًا أن هذه النسبة ستظل مرتفعة حتى فى المدى المتوسط، بسبب العجز المرتفع ومستويات الديون. لكن الأخطر من كل ذلك، أن العامل الرئيسى الذى أدى إلى زيادة الإنفاق هو الفوائد المدفوعة على الدين العام، والتى ارتفعت بنسبة 36 فى المئة إلى 522 مليار دولار، بعد ارتفاع تكاليف الإقراض، وهى تزيد بنحو 112 مليار دولار عن الإنفاق على برامج الدفاع، على الرغم من زيادتها بنسبة 6 فى المئة لتبلغ 410 مليارات دولار. فهل يؤشر ذلك إلى بداية تراجع عظمة إمبراطورية الولايات المتّحدة؟
• • •
إذا كانت الولايات المتحدة (كدولة واحدة) تعد فى المرتبة الثانية لجهة أكثر دول العالم «مديونية» بعد الصين، فإن ارتفاع هذا الدين سنويا أصبح "سمة تاريخيّة" من سمات الاقتصاد الأمريكى منذ تأسيسها، وكان أول ارتفاع سجله، عقب الحرب الأهلية، إذ وصل حجمه إلى 66 مليون دولار فى العام 1860، ثم قفز إلى مليار دولار فى عام 1863، وإلى 25.5 مليار دولار فى الحرب العالميّة الأولى. وكان يشكِّل 10 فى المئة من الناتج المحلى الإجمالى، إلا أنه ارتفع إلى 40 فى المئة فى الحرب العالمية الثانية. وتابع الدين العام قفزاته تدريجا إلى 260 مليارا فى العام 1950، ثم 909 مليارات فى العام 1980. ولوحظ أن القفزات الكبيرة بدأت فى العام 2000 ليصل إلى نحو 6 تريليونات دولار، وزاد فى العام 2007 ليبلغ 9 تريليونات خلال ولاية جورج بوش الابن. أما فى عهد باراك أوباما بين عامى 2008 و2016، فقد ارتفع حجم الدّين إلى 19.8 تريليون دولار.
ووفق توقعات مكتب الميزانية فى الكونجرس فى العام 2020، كان يفترض ألا يتجاوز الدين الحكومى حدود 34 تريليون دولار إلا بحلول العام 2029، لكنه تجاوز هذا المستوى، قبل ست سنوات، ويبلغ حاليا نحو 35 تريلون دولار، وذلك بفعل توسع إدارتى دونالد ترامب وجو بايدن فى الاقتراض بوتيرة سريعة، وربما يتجاوز الرقم القياسى إلى 36 تريليون دولار، بعد انتهاء ولايته فى يناير 2025، وبما يشكل 150 فى المئة من حجم الاقتصاد البالغ نحو 22 تريليون دولار.
ويبدو أن النظر إلى التاريخ ليس مطمئنًا، خصوصًا أن واشنطن زادت من الدّين الوطنى بوتيرة مثيرة للقلق. فمنذ أواخر التسعينيات، كانت موازنة الحكومة الفيدرالية تحقّق فائضا فعليا لبعض الوقت، بينما العام الحالى سيكون هناك نحو 1.9 تريليون دولار فى «المنطقة الحمراء»، وفق توقعات مكتب موازنة الكونجرس التى تحذّر من أن يؤدى ثقل الدّين إلى خفض نمو الدخل 12 فى المئة على مدى العقود الثلاثة المقبلة، مع مزاحمة أقساط الديون للاستثمارات الأخرى.
وفى هذا السياق، يرى بعض الخبراء الأمريكيين، أنه لو أصدرت دولة ما العملة الاحتياطية، ولديها القوة الجيوسياسية المهيمنة، فإن ذلك لا ينقذها من الأزمة، ويستشهد هؤلاء بالإمبراطورية الرومانية، باعتبارها أقوى إمبراطوريات العالم. فعندما بدأ قادة روما فى الإنفاق ببذخ على الإدارة والجيش فى القرن الثالث، ومول الأباطرة الديون الناتجة بخفض قيمة العملة، أدى ذلك إلى ارتفاع معدلات التضخم، وإضعاف استقرار الإمبراطورية ودفاعاتها، ثم إلى زوالها فى القرن الخامس.
• • •
أشار صندوق النقد الدولى إلى تعافى تدفقات رأس المال فى الأسواق الناشئة من أدنى مستوياتها بعد وباء «كوفيد-19»، إذ ارتفع صافى هذه التدفّقات (باستثناء الصين) إلى 110 مليارات دولار، أو 0.6 فى المئة من الناتج المحلى الإجمالى فى العام الماضى، وهو أعلى مستوى منذ العام 2018. وأوضح الصندوق أن التشديد النقدى السريع فى الولايات المتحدة، والدولار القوى، من الممكن أن يؤديا إلى الهرب المفاجئ لرءوس الأموال، وأزمات مالية فى العالم الناشئ. ولوحظ أنه فى الفترة 2022 - 2023، انخفض إجمالى التدفقات العالمية الداخلة من 5.8 فى المئة إلى 4.4 فى المئة من الناتج المحلى العالمى أو من 4.5 تريليون دولار إلى 4.2 تريليون دولار، مقارنة بالفترة من 2017 وحتى العام 2019، وشكلت الولايات المتّحدة نحو 41 فى المئة، أى ما يقارب ضعف حصّتها السابقة البالغة 23 فى المئة. وفى المقابل ارتفع إجمالى التدفقات من الولايات المتحدة إلى الخارج من 14 فى المئة إلى 21 فى المئة من إجمالى التدفّقات إلى الخارج على مستوى العالم.
وفى الوقت نفسه، انخفضت حصة الدولار فى البنوك المركزية كاحتياط نقدى أجنبى، وقد بلغت نحو 6.77 تريليون دولار، أى ما يعادل 54.8 فى المئة من إجمالى الاحتياطات الرسمية للنقد الأجنبى البالغ 12.35 تريليون دولار، ويعد ذلك انخفاضا ملحوظا من حصته البالغة 71 فى المئة خلال العام 2001. ومن الطبيعى أن تنخفض حصة الدولار أكثر من ذلك، إذا أدرج الذهب الذى تشكّل قيمته 15 فى المئة من الاحتياطات العالمية. وعلى الرغم من أنه لا يزال العملة المفضّلة الأكثر استخداما من قِبل البنوك المركزية، إلا أنه يفقد حصته فى السوق، حيث لم تعد مُهيمنة على ترتيب الاحتياطات العالمية. ومع تعميق المواجهات الجيوسياسية، رجح المجلس الأطلسى فى تقرير حديث أن تستمر حصة الدولار بالانخفاض مستقبلًا، ما يؤدى فى نهاية المطاف إلى تقليص الدور المهيمن للولايات المتحدة فى النظام المالى العالمى.
ومع دخول الدولار معركة انتخابات الرئاسة، وفى إطار الحفاظ على قوّة الاقتصاد وتعزيز السيطرة الأمريكية على الاقتصاد العالمى، تعهّد المرشح الجمهورى دونالد ترامب فى برنامجه الانتخابى بفرْض تعريفة جمركية 100 فى المئة، وذلك معاقبة للحلفاء أو الخصوم الذين يسعون إلى طرق فعالة للمشاركة فى التجارة الثنائية بعملات غير الدولار. لكن إذا كان ترامب يحرص فى خطاباته على تذكير الشعب الأمريكى بأن الرئيس جو بايدن أشرف على أعلى معدل تضخم منذ 40 عامًا، فإن معظم الخبراء الاقتصاديين يرون أن التضخم والعجز المالى وأسعار الفائدة ستكون أعلى فى حال دخل ترامب البيت الأبيض.

عدنان كريمة

مؤسسة الفكر العربى


النص الأصلي:
https://bitly.cx/kztfM

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved