جمعية تأسيسية الآن
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الإثنين 21 نوفمبر 2011 - 10:00 ص
بتوقيت القاهرة
اختلفت النهايات عن بداياتها.. ففى بداية اليوم بدا ان الشعارات منضبطة على أهدافها السياسية المعلنة، فالجمعة بحسب ما هو معلن هى جمعة المطلب الواحد: سحب الوثيقة الدستورية المنسوبة إعلاميا إلى نائب رئيس الوزراء الدكتور «على السلمى»، وسميت الجمعة بـ«جمعة حماية الديمقراطية»، واتسع المطلب الواحد إلى مطالب أخرى بجواره أبرزها: جدول زمنى لتسليم السلطة إلى المدنيين، غير أنه عند المساء تناقضت التظاهرات مع أهدافها المعلنة، وأطلق العنان لأهازيج وشعارات دينية ترفض الدولة المدنية وتطالب بدولة الخلافة.
بدت «جمعة حماية الديمقراطية» فى مشاهدها المسائية متنكرة للديمقراطية وقواعدها والمبادئ التى تحكمها، وتجاوزت الهتافات قضية السلمى والوثيقة المنسوبة إليه، والسجالات حول بعض بنودها، إلى الدعوة الصريحة لدولة تقارب فى بعض أوجهها النموذج الأفغانى أو الصومالى، بينما مصر كانت تتطلع إلى نماذج أخرى تستلهم التجارب الماليزية أو التركية، أو ان نمضى على خطى الشيخ الجليل «راشد الغنوشى» فى تونس. ولكن جدول الأعمال المرتبك والخاطئ بعد نجاح الثورة المصرية فى خلع «مبارك» أودى بالبلاد إلى شلل فى قدراتها وغياب للدولة عن ممارسة أبسط مهامها، وهى مسئولية يتحملها كاملة المجلس العسكرى.. وفى اليوم التالى ــ السبت ــ تدهورت المشاهد السياسية فى ميدان التحرير إلى حد بات فيه من الضرورى إعادة النظر جذريا فى جدول الأعمال بما يفضى إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطنى والإسراع بنقل السلطة إلى المدنيين، وربما يكون جديرا بالنظر تأجيل الانتخابات العامة، والدعوة فورا إلى انتخاب جمعية تأسيسية خلال شهر واحد تضع دستورا جديدا للبلاد تنتخب رئيس جمهورية مؤقتا لعام واحد، على النحو الذى جرى فى تونس، وتمنح الثقة لحكومة الإنقاذ، أو تسحبها إذا رأت ذلك، فلا يمكن ان تستمر الدولة فى هذا الدرك من الانهيار المتسارع. وهذا الاقتراح يفضى إلى تقليص المرحلة الانتقالية العشوائية إلى شهر واحد، وينقل السلطة إلى المدنيين، وأن تبدأ مرحلة انتقالية جديدة. تداعيات أحداث التحرير تستدعى تدخلا جراحيا وعاجلا، لا مساومة عليه، وإذا كان لا مناص من دخول الانتخابات التشريعية، وقد ازفت مواقيتها، فإن التوافق الوطنى شرط ضرورى لعبورها بسلام، فالوقت يداهمنا، والصراع المنفلت بين التيارات السياسية خط أحمر.
ولا أظن أن هناك مشكلة تستعصى على التوافق، فمن ناحية موضوعية ثابتة وقعت جماعة الإخوان المسلمين، عبر ذراعها السياسى «حزب الحرية والعدالة» على مسودة مبادئ أساسية للدستور المصرى، تتضمن (٢١) بندا، اعتبرتها تلخيصا لـ(١١) وثيقة قدمتها أحزاب وقوى وشخصيات وطنية، من بينها وثيقة الأزهر الشريف. وأى مضاهاة بين نصوص مسودة الوثيقة الدستورية التى وقعت عليها الجماعة فى ١٦ أغسطس الماضى والوثيقة المنسوبة إعلاميا للدكتور السلمى تبدو النصوص متطابقة بالحرف والفصلة، حتى الأخطاء القانونية الفادحة تكررت فى الوثيقتين، بل هما وثيقة واحدة باستثناء اقحام المادتين التاسعة والعاشرة على وثيقة السلمى الخاصتين بوضع القوات المسلحة وميزانيتها، وهو إقحام ترفضه الجماعة الوطنية بكامل تياراتها وجماعاتها، فلا يصح أن تكون هناك مؤسسة فوق الدولة.
القضية ــ الآن ــ تتجاوز الوثيقة الدستورية، والتوافق عليها ضرورى وحتمى، وتتجاوز سبل تشكيل اللجنة التأسيسية المخولة بوضع الدستور، والاتفاق عليها لا مفر منه، فالأغلبية لا تصنع الدساتير، الأغلبية تتغير من انتخابات إلى أخرى، والدساتير تحيا لحقب طويلة، والدساتير هى وثائق عيش مشترك يصنعها التوافق الوطنى لا لغة الإقصاء والتهميش أو عبارات الاستعلاء.
وربما يحق لنا ــ فى هذه الأجواء العاصفة التى تهدد سلامة البلاد ــ ان نسأل جماعة الإخوان المسلمين، الجماعة الأكبر والأقدم فى التيار الإسلامى، أن تحسم خياراتها السياسية حول طبيعة الدولة التى نسعى إليها، والتى تتسق مع أهداف ثورة يناير، فالحيرة بادية فى التصريحات المنسوبة لقياداتها، فهى تؤكد على الدولة المدنية حينا وتميل إلى شعارات الدولة الدينية حينا آخر، توقع على وثائق دستورية مثل وثيقة التحالف الديمقراطى، الذى يتزعمه جناحها السياسى «الحرية والعدالة»، التى تؤكد على ضرورة «بناء وتحصين دولة القانون بمقوماتها المدنية الديمقراطية الحديثة».
ثم تصدر عن بعض قياداتها تصريحات تذهب إلى الدولة الدينية بذات المقومات التى تدعو إليها جماعات إسلامية أخرى. التأكيدات تتناقض والتصريحات تذهب فى اتجاهات مختلفة حول سؤال واحد: «أى دولة نريد.. مدنية أم دينية؟».. ثم تبلغ الحيرة مداها باعتبار أن الدولة الدينية والدولة المدنية لا تناقض بينهما، وإنهما واحد!.. والمشكلة الرئيسية هنا أن جماعة الإخوان المسلمين لديها فرصة لحصد نسبة بارزة فى الانتخابات التشريعية المقبلة، ولديها تطلعات هى من حقها فى لعب دور كبير فى المؤسستين التشريعية والتنفيذية، ولكنها لا تتعاطى مع التعقيدات السياسية بطريقة توحى بأنها مؤهلة لقيادة البلاد، فهى لا تحسم أمرها بصورة قاطعة تطمئن الرأى العام على مصير البلاد فيما لو تولت السلطة، وأنها لن تنقلب على الوسيلة الديمقراطية التى صعدت بها..
غاب الحسم عن قيادة الإخوان، إلى درجة دعت الفقيه القانونى الدكتور «أحمد كمال أبوالمجد»، وهو لا يمكن أن يتهم بالعداء للإخوان أو مناهضة فرصهم فى الوصول إلى الحكم، للقول بأنهم «غير جاهزين للاندماج فى الجماعة الوطنية»، وهو ما يعنى بكلمات أخرى أنهم غير جاهزين لتولى مسئولية الحكم. وقد يقال وهذا صحيح ومؤكد إن خبرة الحكم لا تتأتى بغير ممارساتها، تماما مثل تجربة الديمقراطية، فالشعوب تتعلمها بالتجربة، وليس بالحديث عنها، باتباع قواعدها، لا بمجرد الكلام عن هذه القواعد.. ولكن مع الإقرار بأهمية ممارسة التجربة لإنضاج الجماعات السياسية، فلابد أن تتصرف الجماعة أولا بطريقة تطمئن المجتمع على أنها سوف تحترم دولة القانون وقواعد الديمقراطية والحريات العامة وتبادل السلطة. وقد أرسلت الجماعة بالفعل رسائل مختلفة لعواصم غربية تحاول أن تطمئن وتزيل مخاوفها من وصول الإسلاميين للسلطة، ولكن شركاء الوطن أولى برسائل تزيل مخاوف أعمق على طبيعة الدولة ومستقبل الثورة.
فإذا ما تدهورت الاوضاع الداخلية، بسبب الشكوك والريب المتبادلة، فإن الثورة يمكن آن تنتكس أو أن تسرق، قبل أن تستكمل أهدافها، أو أن تصوغ هذه الأهداف فى دستور يضمن الانتقال إلى مجتمع ديمقراطى حر يتبنى العدالة الاجتماعية، يحافظ على هوية البلد الإسلامية والعربية ويضمن حقوق الأقباط وقبلها حقوق المواطنة وحقوق الإنسان.. مصر تحتاج إلى فترة انتقالية أخرى قد تطول لخمس سنوات بعد الانتهاء من وضع الدستور وانتخاب السلطة التشريعية ورئيس الجمهورية، تترسخ خلالها قواعد اللعبة السياسية الديمقراطية، وتنشأ طبقة سياسية جديدة تتبنى أهداف الثورة وتعبر عن الحساسيات الجديدة، وتتبلور فى أحزاب قادرة على خوض الانتخابات العامة والمنافسة فيها.. مصر تحتاج إلى فسحة وقت للانتقال إلى عصر جديد بقواعد حكم جديدة وتأسيس جمهورية جديدة، وهذا كله قد يعصف به من جراء الصراعات السياسية، والمبالغات فى استعراضات القوة، أو من تصور بعض التيارات أنها قد وصلت إلى السلطة وعبرت الجسر بينما هى مازالت على الشاطئ، والأمواج أمامها، والعواصف قد تقتلع كل شىء.
لا مصلحة لأحد فى اتساع شقة الخلاف بين التيار الإسلامى والقوى والجماعات السياسية الأخرى، التى وقفت فى ظل النظام السابق مع حق جماعة الإخوان فى حزب سياسى مدنى له مرجعية إسلامية، وضد التعذيب والتنكيل والمحاكمات العسكرية التى تعرض لها قادتها.. حيرة الإخوان تمتد من أدق التفاصيل إلى أعمق القضايا الكبرى، هى جماعة لم تؤهل نفسها للحكم، ووجدت نفسها فجأة أمام احتمالات توليه فى مدى منظور، وهى جماعة درجت على الحياة فى العمل السرى، وعلى أساليبه، وعلى اتقاء الضربات الأمنية، وعلى عقد الصفقات فى بعض الحالات، وعلى تجنب الصدام فى أغلبها، وهى جماعة تحولت تحت الضغط والمطاردة إلى مجتمع مغلق على نفسه، عليه الآن أن ينفتح مرة واحدة على المجتمع، وأن يقنن وضع الجماعة قانونيا.
فمن المثير حقا أن يطرح احتمال وصولها إلى السلطة وهى فى وضع تنظيم سرى، لم تعمل حتى الآن على الحصول على وضعية قانونية كجماعة دعوية، وهو ما يخضع ميزانياتها لرقابة الدولة، وهو أمر طبيعى وضرورى فى ظل دولة قانون نسعى إليها، ولا يعقل أن ندعو معهم وقبلهم إلى رقابة برلمانية على ميزانية القوات المسلحة، بينما تعفى الجماعة من رقابة الدولة.. لا أحد فوق القانون، ولا سلطة ولا جماعة خارج المحاسبة، لا المجلس العسكرى، ولا مكتب الإرشاد.. والدولة المدنية تعنى بالضبط رفض أن تكون الدولة عسكرية أو دينية، لا سلطة أعلى من سلطة القانون.. هذه هى القواعد التى تنهى حيرة الإخوان.. وحيرة بلد يكاد يضيع ويقف فى هذه اللحظات على حافة بركان جديد.